أزمة المؤتمر الوطني الجنوب أفريقي

أزمة المؤتمر الوطني الجنوب أفريقي

27 فبراير 2018
+ الخط -
يشهد حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا تراجعاً ملحوظاً، وبشكلٍ لا يتناسب مع سمعته حزبا عريقا قاد البلاد إلى إنهاء عقود من حكم الأقلية البيضاء، وبداية التحرّر الوطني، وإسقاط نظام الفصل العنصري. ففي ظل قيادة النضال الوراثي، يبدو الحزب الآن غير قادر حتى على الحفاظ على المقاعد في معاقله التاريخية التي اكتسبها منذ عام 1994، عندما وصل إلى السلطة.
وكما لم يحافظ الحزب على الشرعية السياسية المحتكرة للأغلبية من السود، فإنّه لم يحافظ أيضاً على السلطة الأخلاقية التي تمتّع بها في شخص الزعيم نيلسون مانديلا ورمزيته. وإذا كان الحزب وقتها قد نجح في تحقيق مجموعة واسعة من المصالح، وتأسيس نظام اقتصادي مستقر، بالإضافة إلى دعم الناخبين السود الفقراء، فإنّه في عهد ثابو مبيكي، ومن بعده جاكوب زوما، عمل على استبعاد كثيرين منهم، ووصل الأمر إلى مداه بظهور ممارسات الفساد واستغلال السلطة. لذا، كان لا بد من القيام بخطوة إجبار الرئيس زوما على التنحي، والمجيء بخلفه سيريل رامافوسا رئيساً.
عندما صعد نجمه في حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، كان جاكوب زوما يمثّل مرشّحاً مميزاً، باعتباره أحد قادة البلاد الكبار الذين ألحقوا الهزيمة بحكم التمييز العنصري، مع سابقيه نيلسون مانديلا الرمز التاريخي لأفريقيا وأيقونة البلاد وكغاليما موتلانثي في الفترة الانتقالية وثابو مبيكي الأرستقراطي. وبوصفه أحد أفراد ذاك الجيل، فقد هيأ له ذلك القبول، حيث كان في
السابق عضواً في الجناح العسكري لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، إبّان فترة الفصل العنصري، ومقرّباً من مانديلا، وعمل معه على تدبير التحول السلمي نحو حكم الأغلبية السوداء لاحقاً. فقد كان زوما شعبوياً، حفظت له الاحتفالات الرسمية مشاهد كثيرة، كان يرقص ويغني بين الناس بشكلٍ طبيعي. هذا الشكل الشعبوي هو الذي قدمه للفوز في انتخابات عام 2009 عن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، عندها ذكّر الناس بأنّ ما تم إهماله في الأعوام التي سبقت حكمه سيعوّضها باهتمامه بالحركة الشعبية. وهنا يبرز من خلال شخصية راعي الغنم المتواضع الذي وصل إلى السلطة، بوقوفه مع الغالبية من شعب جنوب أفريقيا من الطبقتين، الوسطى والفقيرة، كما أخذ يعزف، طوال فترة انتخابه، على وتر التفاوت بين أهل جنوب أفريقيا، فكانت الغالبية من السود تطرب له، لأنّه يسعدهم بما يريدون سماعه، ويخدّرهم إلى وقت بالآمال، تبعاً لأهوائهم، ووفرت له هذه الميزة رصيداً من الحب الشعبي.
اعتمد زوما على شعبيته، وعلى الغالبية الكبيرة التي يتمتع بها حزب المؤتمر الوطني الأفريقي 214 مقعداً ضد 126 من المعارضة. ولكن ذلك كله لم يشفع له، بعدما عجز حزبه عن الوقوف معه مراراً في وجه محاولات التحالف الديمقراطي المعارض سحب الثقة منه، بسبب قضايا الفساد. فقد كان الحزب يحمي زوما، طوال السنوات الماضية، من سلسلة الفضائح التي تشمل سلوكه الشخصي بتعدّد، الزوجات خمس منهن معلنات، وتهمة الاغتصاب والفساد وسوء الإدارة.
الأمر الآخر أنّ زوما الذي كان دوماً ما يبث اعتراضه على سيطرة البيض على حساب السود، حيث قال، في خطابه، إنّ الأسر البيضاء تكسب خمسة أضعاف ما تكسبه الأسر السوداء على الأقل، فبدلاً من تمكين السود من خلال برنامج العمل الإيجابي المعروف هناك باسم التمكين الاقتصادي للسود، عمل زوما على دعم أسرة واحدة، بكل أنواع الحوافز، وتمكينها من الملكية والإدارة والسيطرة وريادة الأعمال. تلك هي عائلة غوبتا الهندية الثرية التي تملك إمبراطورية مالية في مجالات التعدين والإعلام والتكنولوجيا والهندسة، والمتهمة باستغلال صداقتها الوثيقة مع الرئيس، لكسب نفوذ سياسى هائل، لتوظيف أشخاص يدعمون مصالحها التجارية.
رأى حزب المؤتمر الوطني الأفريقي أنّ دوره التاريخي المتعاظم، حزبا حاكما منذ نهاية حقبة الفصل العنصري، يذهب في اتجاه التعرض للخفوت والتلاشي. وعلى أثر ذلك، أعلن يوم 13 فبراير/ شباط الجاري إقالة زوما من منصبه رئيساً للبلاد، بعد الإخفاق في إقناعه بالاستقالة.
بعد أيام من مقاومته التنحّي، أعلن زوما استقالته، مع التأكيد على خلافه مع حزبه. فسّر بعضهم قرار الحزب الحاكم في جنوب أفريقيا، بإجباره على التنحّي كصراع على السلطة داخل حزب المؤتمر الوطني الأفريقي. وقد يرجح هذا الاعتقاد، بالنظر إلى وقوف رامافوسا في صف انتظار كعكة السلطة طويلاً، خصوصا وهو الزعيم النقابي الذي قيل إنّ نيلسون مانديلا
اختاره ليتولى السلطة. ولكن لا بد من قراءة المنافسة التي خاضها رامافوسا في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ليتم انتخابه رئيساً للحزب، بعدما فاز بفارق طفيف على منافسته نكوسازانا دلاميني زوما، زوجة جاكوب زوما السابقة، مع شبهات الفساد والفضائح التي تلاحق زوما.
تحرّك حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم، وحسم الجزء المُعلن من الفوضى، ولكن ما زال يواجهه التحدي الأكبر، وهو وصول الفساد إلى ما وصل إليه، والذي لا يرتبط بشخص زوما وحده، وإنّما بمنظومة سياسية كاملة. طاولت الشبهات سيريل رامافوسا نفسه، وهو المناضل الثري الذي يتعرّض لانتقاداتٍ، هو الآخر، فيما يخص مصالحه التجارية. فالحزب الذي حكم قرابة ربع قرن، منذ أنهى سياسة التمييز العنصري، تعرّض لفقدان المصداقية، ولا تزال وصمة التفاوت الاجتماعي الصارخ بارزة، ما عمل على فصل الحزب عن مؤيديه الحقيقيين الذين قد يميلون، بعد ذلك، إلى البحث عن بديل أصلح. ربما يتمثّل ذلك البديل في المعارضة، بعد أن تبدّد التراث النضالي، وسقطت ورقة القدسية التي كانت تغطي سوأة حزب الاستقلال الذي لم يعد كما كان في 1994، كما أنّ زوما ومن بعده رامافوسا ليسا مانديلا.
8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.