إثيوبيا.. الاضطرابات واستقالة ديسالين

إثيوبيا.. الاضطرابات واستقالة ديسالين

26 فبراير 2018

ديسالين يؤدي اليمين عند رئاسته الحكومة الإثيوبية (21/9/2012/فرانس برس)

+ الخط -
ربما لم يكن متوقعا تقديم رئيس الوزراء الإثيوبي، هايله ميريام ديسالين، استقالته أخيرا من رئاسة الحكومة والائتلاف الحاكم معا (الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية)، لا سيما أن حكومته سعت، منذ أوائل العام الجاري، إلى تهدئة الأوضاع في بؤر التوتر، خصوصا في مناطق إثنية الأورومو (40% من السكان)، عبر تبنيها حملةً، هي الأولى في تاريخ البلاد، لإطلاق سراح معتقلي المعارضة، وهم ستة آلاف، وإغلاق السجون، وتحويلها إلى متاحف. وفي المقابل، هناك من يرى هذه الخطوات غير كافية، بل ربما كانت سببا في الاستقالة، بسبب الانتقائية التي شابتها، لا سيما ما يتعلق بأتباع حزب مؤتمر الأورومو الاتحادي، حيث رفضت الحكومة إطلاق سراح أمينه العام، بيكيلا جربا، وعدد من أتباعه، ما دفعهم إلى تنظيم اعتصام وعصيان مدني في مناطق الأورومو قبل الاستقالة بأربعة أيام، تعاملت معها قوات الأمن بعنف، ما أسفر عن سقوط قتلى. صحيح أنها أطلقت سراحهم بعد ذلك، لكن هذا لم يمنع ديسالين من تقديم استقالته، ليطلق العنان للتحليلات والتفسيرات الخاصة بأسبابها الحقيقية، بعدما تضمن قرار تنحيه عباراتٍ أقرب إلى الإنشائية منها للأسباب الحقيقية.
هذه الاضطرابات التي تشهدها مناطق الأورومو منذ 2015، بالتزامن مع اضطرابات الأمهرا الحاكمة تاريخيا حتى 1991، ناهيك عن إضرابات الصوماليين في الإقليم الصومالي الغربي، أوغادين، الذي سيطرت عليه بعد حرب عام 1977، كل هذا دفع إلى التساؤل بشأن الأسباب الحقيقية للاستقالة، وهل يمكن اختزالها في المشهد الأخير فقط، أم هناك أسباب أخرى، ثم ماذا عن هذه الأسباب؟ هل تتعلق فقط بمطالب اجتماعية أو حتى اقتصادية، أم تحمل طابعا إثنيا
يرتبط بالتاريخ والممارسات الراهنة في آن واحد، أم هي ذات مطالب سياسية أم تشملها جميعا، بل ربما تتعداها للحديث عن مستقبل الإثنية الفيدرالية التي أقرها دستور عام 1994؟ وفي المقابل، هناك تساؤلات عن كيفية تعامل الائتلاف الحاكم المهيمن الذي يتشكل من أربع إثنيات لا تتكافأ في نسبتها العددية، فضلا عن النفوذ السياسي، هل سيكون تعاملا شكليا يراعي المحاصصة "إن جاز التعبير بين أعضائه"، أم سيراعي المطالب الشعبية الحقيقية للأورومو وغيرها، لا سيما بعد بروز ردود أفعال من قوى في المعارضة غير ممثلة في "الائتلاف"، تشير إلى عدم اكتراثها بالاستقالة (الأورومو الاتحادي)، ما يعني أن الاستقالة وتغيير الأشخاص لا يغنيان عن تغيير السياسات.

طبيعة النظام السياسي الإثيوبي
ربما يكون مفيدا، بداية، النظر في طبيعة النظام الإثيوبي القائم على فكرة الإثنية الفيدرالية على المستوى المركزي، باعتباره، وفق محللين، السبب الحقيقي في المشكلة، على الرغم من أن الظروف التي صاحبت نشأته بعد إطاحة الرئيس منغيستو هيلامريام عام 1991، كانت تستهدف الحيلولة دون حدوث اضطراباتٍ في بلد يضم أكثر من إثنية، لبعضها امتدادات إقليمية، مثل أوغادين في الصومال، والعفر في جيبوتي وإريتريا، وبني شنقول في السودان، بل إن أقاليم بعض هذه الإثنيات تم ضمها قسرا مثل أوغادين. وبالتالي باتت هناك تيارات داخلية فيها تطالب بحق تقرير المصير والانضمام إلى الصومال الكبير. ولتفادي هذه الاضطرابات، بل والدعاوى الانفصالية أيضا، أو حتى فكرة الحروب الأهلية، على غرار ما حدث في حالات مماثلة، مثل نيجيريا، تم الأخذ بفكرة الفيدرالية اللامركزية، مع إعطاء الولايات التسع التي تتشكل منها البلاد "قانونا" حق تقرير المصير، لكن وفق شروط تعجيزية، تحول دون حدوثها فعليا.
وعلى الرغم من أن البلاد تأخذ بالنظام البرلماني، إلا أن جبهة التيغراي (6%)، والتي قادت برئاسة الراحل ميلس زيناوي النضال بمساعدة الإثنيات الأخرى، خصوصا الأورومو ضد حكم الأمهرا التاريخي (27%)، عملت على تشكيل ائتلاف حاكم شكلي، يضم بعضها كالأورومو، فجاء بنائب مدني ينتمي إلى أقلية مهمشة، لا تتعدى نسبة تمثيلها 2.3%، هو هايله ميريام ديسالين، ينتمي إلى مجموعة ولايتيا ويترأس حزب شعوب الجنوب، كما أن الأحزاب الأخرى المشاركة كانت ذات طابع نخبوي بالأساس، وبالتالي لا تحظى بشعبية كبيرة على الأرض. ومن ثم باتت الهيمنة الفعلية لزيناوي، ذي الكاريزما القوية، ولجبهة التيغراي التي باتت المهيمنة على المؤسسة العسكرية، الذراع الطولى لمواجهة أية اضطرابات، لا سيما أن قائدها الأعلى هو رئيس الحكومة، بحكم الدستور.

استقالة ديسالين
اختيار الائتلاف ديسالين خلفا لزيناوي بعد رحيله عام 2012 جعل بعضهم يستبشر خيرا بأن البلاد ربما تتخلى عن هيمنة إثنيات معينة، وكذلك حكم العسكر، فلأول مرة تخرج رئاسة الحكومة عن سيطرة كل من الأمهرة والتيغراي، وتذهب إلى رئيس مدني إصلاحي. لكن يبدو أن هذه الإيجابيات تحولت إلى سلبيات بعد ذلك، فالرجل سعى إلى إدخال إصلاحات عديدة، منها تحقيق طفرة في مجال النمو الاقتصادي، جعل البلاد في مصاف الدول الأسرع نموا على مستوى العالم (10%)، فضلا عن سعيه إلى إحداث توازن سياسي داخل الحكومة، عبر اختيار نائب له، هو ديميكى ميكونين من الأمهرا، ومحاولة تعويض أغلبية الأورومو عبر منحها عشر حقائب وزارية، منها الخارجية للمرة الأولى في التاريخ، إلا أن انتشار الفساد داخل الحكومة، ناهيك عن هيمنة التيغراي على الجيش، جعل هناك صداما بينه وبين المؤسسة
العسكرية، خصوصا في ما يتعلق بمواجهة الاضطرابات من ناحية، وكذلك خلافه السياسي مع عناصر عديدة في الائتلاف الحاكم، والذين تورط بعضهم في قضايا فساد، حيث كان يصر على عزلهم وتقديمهم للمحاكمة، في حين أصر أتباعهم على أن يكون التعامل وفق لوائح الائتلاف فقط.
وكان أحد أسباب اضطرابات إقليم وإثنية الأورومو التي اندلعت قبل حوالي ثلاثة أعوام، ولم تهدأ بعد، هو عدم الثقة في الحكومة واتهامها بالفساد، وإن بدا ظاهريا أن هناك مشروعات قومية تنوي القيام بها، مثل توسيع العاصمة أديس أبابا، والتي تقع في نطاق الأورومو، وما قد يترتب على ذلك من الاستيلاء على أراضي بعض السكان، حيث لم ينظر هؤلاء إلى العائد القومي، بقدر عدم ثقتهم في بعض المنتفعين الذين يسعون إلى تحقيق مكاسب شخصية، جراء هذه المشروعات. وقد تكرّر الأمر نفسه في مناطق الأمهرا، وسعي التيغرانيين إلى الاستيلاء على بعض الأراضي، من دون سند قانوني.
تعددت التفسيرات بشأن استقالة ديسالين، فهناك من يربطها بشعوره بعدم رغبة الجيش في تهدئة الأوضاع في البلاد، بل والسعي الدائم إلى إفساد أية محاولات إصلاحية، كما حدث مع الأورومو. وبالتالي، بادر بتقديم الاستقالة، لا سيما أنه ألمح، هو ونائبه، إلى ذلك من قبل، ففي كلمة له في خضم أحداث 2015، دعا جميع أحزاب الائتلاف الحاكم إلى الاصطفاف في محاربة الفساد والإرهاب، ومواجهة ما وصفه بالتكابر والاستعلاء الذي يمارسه بعضهم، في إشارة ضمنية إلى التيغراي، في حين كان نائبه أكثر صراحةً، عندما قال إن الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي ليست أهم ولا أقوى من بقية أحزاب الائتلاف.
وهناك وجهة نظر أخرى، ترى أن فشله في وقف هذه الاضطرابات، مقارنة بزيناوي، دفع قوى الائتلاف إلى الضغط عليه لتقديمها. فيما ذهب رأي ثالث إلى ربط هذه الاضطرابات بنتائج انتخابات 2015، والتي سيطر عليه الائتلاف بالكامل، باستثناء مقعد واحد، ما دفع إلى بروز حالة من السخط الشعبي، وكذلك العديد من المعارضة المسلحة، ومن بينها جبهة (TPDM) من إقليم تيغراي، وجبهة تحرير أورومو (OLF)، وجبهة (GPLM) من إقليم جمبيلا، وجبهة (BPLM) من إقليم بني شنقول على حدود السودان. وجبهة (ADFM) من إقليم أمهرا.

ما بعد الاستقالة؟
وأياً يكن السبب. تبقى الأسئلة: ماذا بعد، ومن يخلف الرجل؟ وهل ستنتهي الاضطرابات الداخلية المتعلقة بالأورومو وغيرها أم لا؟ وهل يمكن أن تتحول إثيوبيا الدولة القائد في شرق أفريقيا وإحدى واحات الاستقرار إلى حالة من عدم الاستقرار؟ بدايةً، يمكن القول إن دستور البلاد ينص، في الفقرة الأولى من المادة 73، على انتخاب رئيس الحكومة من بين أعضاء الغرفة الأولى في البرلمان، والتي يطلق عليه مجلس نواب الشعب، وهي نقطة مهمة، حصرت الرئاسة في أعضاء البرلمان. أما الفقرة الأولى من المادة 75 فنصّت على أن يقوم نائبه بمهامه، في حالة غيابه. وهو ما لا ينطبق على حالة الاستقالة. وبالتالي، صار هناك خياران:
الأول: اختيار نائبه ديميكى ميكونين، أسوة بما حدث مع ديسالين بعد وفاة زيناوي، لا سيما أن مدة رئيس الحكومة لن تزيد عن عام، حيث ستجري الانتخابات 2020. لكن ربما يواجه هذا
الاختيار باعتراض التيغراي تحديدا، لأن معنى ذلك عودة الأمهرا الذين خرجوا عليهم في عهد منغيستو، للحكم من جديد. وربما يشاطرهم في ذلك الأورومو، وإن كان هؤلاء قد يفضلون حاكما أمهريا، بعد معاناتهم مع التيغراي أخيرا.
الثاني: الاختيار ما بين رؤساء الائتلاف الحاكم الحالي، وهنا تبرز عدة شخصيات. تبرز من الأورومو شخصية أبي أحمد (والده مسلم وأمه مسيحية)، وهو الرئيس الجديد للمنظمة الديمقراطية لشعب أورومو، خلفا للما غرسا الذي أصبح نائبا له وكان مرشحا قويا. لكن يبدو أن عدم عضويته في البرلمان حالت دون الإبقاء عليه في منصبه. ويعد أبي أحمد رجلا ذا خلفية عسكرية، حيث شغل رتبة كولونيل في الجيش، كما شغل أيضا منصب وزير التكنولوجيا. ولو تم إسناد المنصب له، فسيكون أول مسلم يتولى رئاسة الحكومة.. كما يبرز أيضا من الأورومو الرجل الثاني ورقنه جبيوا وزير الخارجية الحالي، وهو يمتاز بأنه دبلوماسي وأمني في الوقت نفسه، حيث رأس الشرطة الفيدرالية عشر سنوات. لكن هل سيوافق الائتلاف، والتيغراي تحديدا، على تبوّؤ أغلبية الأورومو المهمشة ذات الأغلبية الإسلامية رئاسة البلاد التي طالما قدمت نفسها تاريخيا للعالم ولإسرائيل بأنها دولة مسيحية في محيط عربي، على الرغم من أن دستورها الحالي ينص على أنها دولة علمانية، لا دين لها؟
وهناك من الأمهرا ديميكى ميكونين نائب ديسالين، وهو الأقرب نظريا لخلافته، لكنه قد يصطدم باعتراض التيغراي التي تبرز منها شخصية وزير الاتصالات ونائب رئيس الوزراء ديبرتسيون جبريمكائيل. وعلى الرغم من أنه شخصية إصلاحية، إلا أن قوى الائتلاف تتخوف من هيمنة التيغراي، ما يجعل حظوظه قليلة.
أما آخر المرشحين فهو الأمين العام للائتلاف الحاكم، شيفورو شقوتي، ونائب ديسالين في رئاسة حزب شعوب جنوب إثيوبيا. وقد يكون شخصية توافقية، يمكنها استكمال دورة رئاسة الجنوبيين للحكم إلى حين إجراء الانتخابات، لكن السلبيات التي واجهت ديسالين قد تلقي بظلالها عليه أيضا.
وفي النهاية، يمكن القول بوجود مهمتين جسيمتين على عاتق البرلمان في جلسته المقبلة. اختيار خليفة لديسالين، والتصديق على حالة الطوارئ في البلاد ستة أشهر، والتي لم تنجح في وقف الاضطرابات خلال تطبيقها في البلاد مرات. وتمر البلاد الآن في مرحلة حرجة، فالتعامل الأمني مع الاضطرابات ساهم في رفع سقف المطالب من مطالب اجتماعية، رفض تسليم الأراضي أو الحصول على بديل، وأخرى اقتصادية، محاربة الفساد وإعادة توزيع الثروة، إلى مطالب سياسية، إلغاء نظام الفيدرالية الحالي، لفشله في تحقيق الاندماج الوطني، ناهيك عن استمرار المطالب الانفصالية. مع ذلك، تبقى إشكالية ضعف الحركات المعارضة المسلحة وعدم وجود حاضنة شعبية لها، فضلا عن غياب مظلة واحدة، تجمع قوى المعارضة السياسية، عائقا أمام استجابة جدية من النظام لها.
B8DDCC55-8075-41F9-A617-4F3EA9A3A8C9
بدر شافعي

كاتب وباحث مصري، يحمل الدكتوراة في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، له كتابان عن تسوية الصراعات في إفريقيا، وعن دور شركات الأمن في الصراعات.