طبخة شاعر

طبخة شاعر

25 فبراير 2018
+ الخط -
لم يبق الكثير، وستنضج "الطبخة" أيها الشاعر الذي قرّر، اليوم، أن يراجع حساباته.. هو محض وقت قصير، وستكون متربعًا حول المائدة المشتهاة.
صحيح أن "الطبخة" ما تزال على الموقد منذ بضعة وخمسين عامًا. لكن ما الضير؟ فقد أقنعتك جنيّة الشعر أن نضوجها قد يستغرق العمر برمته، وأنت وافقت، فلماذا تعيد الآن حساباتك، أيها الأبله؟
حسنًا، لنبدأ: تريد بيتًا يؤويك مثل "كل الناس"؟.. ماذا حلّ بـ"بيت الشعر" الذي اخترته، من دون سواه، مأوى لك أيها المرتجف؟ أذكر جيدًا أنه كان خيارك المصيري، وأنك قطنته منذ اكتشفتَ زغب القصيدة على جسدك النحيل، ألم يكن بيتًا دافئًا كما كنت تدّعي، ألم تكن تختبئ فيه من صقيع الشوارع والناس، وتفزع إليه كلما أغلق العالم أبوابه دونك؟ وكم كنت تزعم، أيضًا، أنه "بيت متحرّك"، يماثل "خيمة الكشافة"، تفرده على أي رصيفٍ، وتتوارى في جوفه، كلما استبدّ بك التعب، بل وأكثر من ذلك، كنت تتحصن فيه، كلما زحفت جيوش الرتابة، لتحتل الأرض والزمن. ومن فوق أسواره، كنت تحارب باستماتةٍ دفاعًا عنه، وما أكثر أعداء الشعر، حين يكون الشعر شراعًا للحرية.. أكان بيت الشعر وطنك، وما حوله المنفى، لتكتشف، الآن، مبلغ الخديعة التي دخلت شركها باختيارك؟ أم تراه كان بيتا واهيًا كبيت العنكبوت، لتعلن الآن تمرّدك عليه، ورغبتك بالرحيل عنه.. أليس الوقت متأخرًا على قرارٍ كهذا، بعد أن بنى الجميع بيوتا أخرى، وهجعوا فيها كبعيرٍ لم تخض حروبًا كحروبك؟.. غير أنني لن أخبرك بذلك الآن، ريثما تنضج "الطبخة".
الواقع، أن "الطبخة" أوشكت على النضوج. وبانتظار ذلك، لا بأس من أن ننتقل إلى حسابات أخرى ريثما يجهز طعامك. تقول إنك تريد امرأة خارج القصيدة؟.. ما خطب امرأة القصيدة؟ ألم تكن امرأة خلقتها أنت من نار وضوء؟ أعني من طين مفرداتك، ورسمت ملامحها كما تشتهي قصيدتك، وتعيد تشكيلها وفق سيمفونياتٍ شعريةٍ لا تنضب في صالة الأوركسترا هناك في فضاء خيالك، وكم من امرأة أدخلتها إلى النص، ولم تخرج منه أبدًا.. كنت تأوي إليها، وتنهدّ على حضنها، كلما ضاقت بك الأرض، فتشعر بدفق أنوثتها يتسرّب إلى شرايينك الجافة، فتستعيد وهج الحياة من جديد، فما بالك الآن تزعم أنك تحتاج امرأة "حقيقية".. كل النساء خارج النص وهم، يا صديقي. هل تريد أن تختبر نساء خارج القصيدة للمرة الأولى في حياتك؟ أنسيت كيف كنت في طفولتك تعتقد أن طقوس الاقتران بالنساء تتم بتنظيم سباقٍ بين رجال الأرض إليهنّ، ومن يتأخر لن يحصل إلا على فتات امرأة ؟.. كم أخشى أن أخبرك أن ما كنت تعتقده قد تحقق، فأنت تأخرت كثيرًا، ولم تعد هناك أي امرأةٍ بانتظارك، غير أنني آثرت أن أكتم هذا الاكتشاف المتأخر عنك، ريثما تنضج الطبخة.
سأعِدُّ صحنك الآن، لكن دعنا، أولاً، ننتقل إلى زعم أخير أيها "النادم".. تريد أن تعقد "معاهدة سلام" مع المجتمع ؟.. كيف يطلب مستحيلًا كهذا محاربٌ لم يعقد أي هدنةٍ في حياته، منذ جعل من "تغيير المجتمع" معركة مصير دونها الموت؟
بأي رايةٍ بيضاء ستقابل عدوًا جعلك هو الآخر معركة مصير، كي يبقى على قيد "المألوف"، وهل تعتقد أن مجتمعًا كهذا سيطمئن، يومًا، إلى شاعرٍ أو متمرد "متقاعد" مثلك؟ ألم تكن من أصحاب نظرية الركض المتواصل فوق "صفيح ساخن"، ومن الذين سخروا من قصة "السلحفاة التي سبقت الأرنب" التي حاولوا حشوها في دماغك، لإبقائك في الصفوف الأخيرة دومًا، أنت الذي كنت مؤمنًا أن تغيير العالم لا يقوده غير الفراشات المحترقة بالضوء؟
عمومًا، يا صاحبي، لا بأس، سنناقش هذا كله بعد تناول طعامك.. فقد نضجت "طبخة الشاعر" أخيرًا.. أعني "طبخة الحصى".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.