درسٌ من جنوب إفريقيا

درسٌ من جنوب إفريقيا

24 فبراير 2018

جاكوب زوما..استقالة تحت ضغط حزب المؤتمر الوطني (14/2/2018/فرانس برس)

+ الخط -
يمثل التراكم عنصراً أساسياً في البناء الديمقراطي، فالأنظمة الديمقراطية لا تُبنى بين عشية وضحاها. يستغرق ذلك زمناً يطول أو يقصر، حسب البنيات المجتمعية والثقافية والسياسية السائدة، ومدى استعدادها لقبول الديمقراطية منهجاً وأفقاً لتدبير الشأن العام. ويزداد الأمر صعوبةً في البلدان التي شهدت انتقالات ديمقراطية، أُنجزت عبر مخاضات عسيرة ومكلفة، اضطر فيها الفاعلون، كل من موقعه، أن يدفع جزءاً من تكلفة الانتقال الباهظة. ومن هنا، حِرص السلطة والنخب والرأي العام في هذه البلدان على صيانة هذا المكسب، وتحصينه، لا سيما من القوى الاجتماعية المحافظة التي تنظر، دائماً، بتوجسٍ إلى أي تغيير يمس مصالحها.
مناسبة هذا الكلام، ما حدث أخيراً في جنوب إفريقيا، حين اضطر الرئيس جاكوب زوما إلى تقديم استقالته تحت ضغط حزبه المؤتمر الوطني الإفريقي، بعد فضائح فساد تورّط فيها، من خلال علاقته المشبوهة مع عائلة ثرية ذات نفوذ اقتصادي وتجاري واسع في البلاد. وعلى الرغم من المناورات التي قام بها لتجنب سيناريو رئيس زيمبابوي السابق، روبرت موغابي، إلا أنه في النهاية أذعن وخضع لقرار حزبه وتخلى عن السلطة، مع أن الأمر لم يخرج عن تسويةٍ توصل إليها الحزبُ والبرلمان، وربما الجيش، تنحّى زوما، بموجبها، عن السلطة.
تنتمي جنوب إفريقيا إلى الديمقراطيات الجديدة التي تشكلت مع بداية التسعينات، نتيجة تفكك المعسكر الشرقي، ونهاية الحرب الباردة، وتأثير ذلك على عدد من الأنظمة السلطوية 
والشمولية. ولم يكن طريق تحولها نحو الديمقراطية مفروشاً بالورد، بل كان مخاضاً عسيراً وصعباً، بالنظر للبنية المغلقة لنظام الفصل العنصري الذي حكم جنوب إفريقيا عقوداً. ولولا حكمة الزعيم الراحل نيلسون مانديلا، وقدرته على استيعاب تناقضات المرحلة، وفق رؤية مرنة، فضلت أن تتطلع نحو المستقبل، بدل أن تظل حبيسة جراح الماضي، لولا ذلك كله، لما كان لمسار التحول في هذا البلد أن ينجح، خصوصاً في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية، وتصدع النسيج الاجتماعي والثقافي، نتيجة احتكار السكان البيض السلطة والثروة.
لا يمكن تفسير إصرار حزب المؤتمر الوطني الإفريقي على رحيل زوما إلا بالرغبة في صيانة مكسب الديمقراطية، وإنقاذه من نزوات رئيس غير مسؤول. يتعلق الأمر بديمقراطية في طور الترسيخ. وترسيخُها، كما تذهب إلى ذلك دراسات الجيل الجديد من أدبيات التحول الديمقراطي، يمثلُ تحدياً بالغاً تتداخل فيه عواملُ مؤسساتية وثقافية وسياسية مركبة، وقد لا نبالغ إذا قلنا إنه، في أحيان كثيرة، يكون ترسيخ الديمقراطية أصعب من بنائها.
أدرك حزب المؤتمر الوطني، ومعه قطاع واسع من النخب والرأي العام، أن التساهل مع زوما قد يكون مقدمةً لتفكك الديمقراطية الجنوب أفريقية التي تواجه تحدياتٍ جسيمةً تخص القضاء على الفقر والبطالة، والإدماج التام للسكان السود في النسيج الأهلي، والتفكيك النهائي للإرث المؤلم الذي خلفه نظام الفصل العنصري البائد.
يؤكد هذا الحدثُ معطياتٍ في غاية الأهمية، أبرزها ضرورة وجود إرادات سياسية تتفاعل فيما بينها، في أفق جعل الديمقراطية ورشاً مفتوحة أمام البناء والاجتهاد والمراكمة، هذا من دون إغفال دور مؤسسات الوساطة المختلفة، باعتبارها عنصراً بنيوياً وحاسماً في هذه العملية، فلا يمكن إنجاز انتقال ديمقراطي من دون أحزاب ونخب ومؤسسات قوية وفاعلة، قادرة على أخذ المبادرة في اللحظة المناسبة والحاسمة.
مسألة أخرى تُثبتها واقعة جنوب إفريقيا، وهي أن الفساد أكبر تهديد للبناء الديمقراطي، فاستشراؤه بين رجال السياسة، على اختلاف مواقعهم، لا يُقوّض فقط مصداقيتهم أمام الرأي العام، بل يؤدي، وهذا هو الأخطر، إلى ذلك الزواج المشبوه بين السلطة والمال، والذي يفرز امتداداته في مختلف مناحي الحياة، فلا يصبح الفسادُ، حينها، خيارَ دولةٍ فقط، بل خيار مجتمعٍ بأسره.
غير أن لهذه الواقعة وجهاً آخر يجدر بنا استحضاره، لما لذلك من دلالاتٍ تصبّ في واقعنا 
العربي. فالرئيس المستقيل، على الرغم من تورطه في قضايا فساد، إلا أنه انصاع، في النهاية، لسلطة القانون والمؤسسات في بلاده. حاول المناورة، لكن محاولته اصطدمت بالبناء المؤسساتي والدستوري، وبالتطلع إلى القطع مع كل ما من شأنه أن يُشكل انتكاسةً ديمقراطيةً. لم يستعمل سياسة ''الأرض المحروقة'' كي يظل جاثماً على أنفاس مواطنيه، ويبقى رئيساً إلى إشعار آخر.
يجرّنا هذا إلى واقع عربيٍّ يأبى التغيير في هذا الصدد. فما يُلاك حول مشاريع التحول نحو الديمقراطية يصطدم بغياب الإرادة السياسية في مختلف تمظهراتها. معظم النخب العربية، حاكمةً ومعارضةً، تفتقد هذه الإرادة التي تجعلها ترى في الديمقراطية مرجعية أساسية في الأداء السياسي والاجتماعي والثقافي. فهي تتحمل قسطاً غير يسير من مسؤولية الإخفاق في بناء الديمقراطية وترسيخها، بسبب فسادها وثقافتها السلطوية، ونزوعها التلقائي للحفاظ على الأوضاع القائمة التي تضمن لها مصالحها.
لا تختلف بلدان أفريقية كثيراً عن بلداننا العربية في شروطها التاريخية والاقتصادية والاجتماعية. ومع ذلك، قطع بعضها أشواطاً غير هينة على درب مأسسة الممارسة السياسية، وإشاعة الحد الأدنى من الثقافة الديمقراطية داخل دوائر السلطة وصناعة القرار، في الوقت الذي نرى فيه رؤساء عرباً مستعدين لتدمير أوطان، بحالها، وحرق الأخضر واليابس، كي يظلوا خالدين على كراسي السلطة.