لا تخبري ماما

لا تخبري ماما

21 فبراير 2018
+ الخط -
لا تخبري ماما.. حين تقرأ هذا التحذير، تعتقد للوهلة الأولى أن الأب يطلب من طفلته ألا تخبر أمها أنه قد عاد إلى التدخين، وقد رأته الطفلة متلبساً مع سيجارته في الحمام، أو ربما يخطر ببالك أنها قد رأته متلبساً مع امرأة أخرى. ولكن الغوص مع صفحات هذه الرواية، وهي سيرة ذاتية للكاتبة البريطانية ذات الجذور الإيرلندية، يصدمك صدمة مباغتة؛ لأنك تكتشف مع أحداث السرد الصادمة في الفصل الثاني أن الطفلة ذات الست سنوات قد تعرّضت لتحرش جنسي من والدها، وكانت البداية بقبلةٍ محمومةٍ على فمها.
حتى اللحظة، وبعد أن مر أسبوعٌ على قراءتي الرواية، وإعادة قراءة صفحات منها، ما زلت لا أصدق أن طفلةً تتعرض لكل هذا الظلم من والديها، فالأب ظل يغتصبها سنوات حتى حملت منه، والأم تعرف وتصمت، والمجتمع يهاجمها ويتهمها ويحاصرها.
فكّرت كثيراً في شخصية الأم، المفروض أن تكون خط الدفاع الأول عن أطفالها، لكنها في حياة الطفلة، توني ماغواير، على النقيض تماماً، وربما لو حللنا شخصية الأم لاكتشفنا أنها تعاني من حب غير طبيعي لزوجها السكّير المقامر الذي ينحدر من أسرة إيرلندية أقل مكانةً من أسرتها، حيث تنحدر الأم من أصول إنكليزية خالصة. وعلى الرغم من انتماء الأم للطبقة المتوسطة، إلا أنها كانت تنظر باستعلاء لزوجها وعائلته. وعلى الرغم من أنها كانت تكبر الزوج بعدة سنوات، إلا أنه كان يشعر بالفخر أمام عائلته لزواجه منها، فيما يشعر في قرارة نفسه بالنقص، ويرجّح أنه ربما خانها مرات ومرات، لكنها صمتت، كما صمتت على تحرشّه الأول بطفلتهما الوحيدة.
كتبت الطفلة أنطوانيت، واسم التدليل لها الذي لم ينادها به الأب، ولو مرة واحدة، توني: كنت أثق في حب أمي لي، ستطلب منه أن يتوقف، لكنها لم تفعل. تقول الكاتبة إنها تحدثت مع طبيبةٍ نفسيةٍ بشأن موقف أمها الصامت، فخلصت الطبيبة إلى الواقع الذي نلمسه كثيراً في حياتنا حتى الآن، وهو أن "الحب عادة من الصعب التخلص منها. اسألي النساء اللواتي تحمّلن علاقة مؤذية فترة طويلة، على الرغم من اقتناعهن بفشلها. والنساء اللواتي ينجحن في العثور على ملاذٍ خارج بيوتهن يعُدن، في الغالب، إلى العيش مع أزواجهن، على الرغم من تعنيفهن. لماذا؟ لأنهن متعلقات، ليس بالرجل الذي يعنفهن، بل بذاك الذي اعتقدن أنهن تزوجنه. سيواصلن البحث عن هذا الرجل إلى الأبد".
هل يمكن القول إن المرأة تبقى، طوال عمرها، مع رجل سيئ مثل والد توني؛ لأنهن لا يرغبن بالاعتراف بحقيقة حظهن السيئ؟ وهذا ما حدث مع أم الطفلة توني التي زجرت ابنتها بقسوة، حين أخبرتها عن تحرّش أبيها بها. والغريب، في هذه السيرة الذاتية، أن حكماً مخففاً قد صدر ضد الأب، والأغرب أنه عاد إلى البيت طليقاً، حتى موعد المحاكمة، بعد إلقاء الشرطة القبض عليه. والأغرب أن سلسلة جديدة من العذاب والنبذ قد تلت خروجه من السجن، خصصت لها الكاتبة غير المحترفة كتاباً ثانياً بعنوان "لما عاد أبي إلى البيت".
تروي الطفلة توني ما يحدث في كل المجتمعات، من التستر على الجاني ضد الضحية؛ رغبةً في الحفاظ على لعبة الأسرة السعيدة أمام المجتمع، كما وصفتها الصغيرة توني. أما العقاب الذي تعرضت له الصغيرة فهو يساوي أضعاف سنوات السجن المعدودة التي لم تستبدل بإعدام الوحش الآدمي الذي اعتدى على طفلته، كأنه يعيش في العصر الحجري، فالمجتمع البريطاني المتحضر لم يرحمها، بل اتهمها بأنها تمادت معه، ولم يفسر صمت الصغيرة سنوات على أنه خوف وجهل، لكنه فسره بأنها هي من مهدت له طريق الخطيئة، فحوّلها المجتمع إلى شر مستطير، يجب أن تغلق الأبواب في وجهه، فكان أمام الفتاة أن تعمل وتنجح بإطلاق رصاصة الرحمة على ماضيها، أو تتحول بائعة هوى، كما يحدث مع الغالبية العظمى من النساء، ضحايا سفاح القربى.
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.