مصر.. الأزمة أكبر من القمع

مصر.. الأزمة أكبر من القمع

21 فبراير 2018
+ الخط -
تعيش مصر هذه الأيام على وقع ما هو أعمق من القمع السياسي غير المسبوق الذي يمارسه النظام  في حق معارضيه، حيث يعيش هذا النظام أزمة شرعية عميقة، تتخطى الاعتراف الداخلي والخارجي اليومي، بسيطرته على مؤسسات الدولة. فقد أثبتت انتفاضة المصريين في يناير/ كانون الثاني 2011 أن شرعية نظام يوليو (1952) تآكلت، وأن النظام السياسي  المصري في حاجةٍ لشرعية جديدة، في حين أثبتت خبرة السنوات الأربع الأخيرة أن نظام الرئيس المصري الحالي، عبد الفتاح السيسي، غير قادر على إعادة بناء الشرعية المفقودة. ومع تزايد إدراك النظام تلك الحقيقة يزداد فرطه في قمع معارضيه بلا جدوى. 

بنى نظام يوليو شرعيته على ركائز أساسية، كدوره التنموي وحزبه الواحد، وسيطرته الأمنية ومقاومته النفوذ الأجنبي، وهي عوامل تلاشت تقريباً خلال العقود الستة الأخيرة، فلم يعد للحكومة المصرية دور تنموي يذكر، فميزانيتها السنوية، وفقاً لموازنة العام المالي الماضي، لا تتعدى تريليون جنيه مصري (حوالى 55 مليار دولار) يذهب ثلثها لخدمة الديون، وربعها لأجور موظفي الدولة، وخمسها للدعم، في حين لا تتعدى الاستثمارات الحكومية مبلغ 8.5 مليارات دولار في بلد يتخطى عدد سكانه مائة مليون نسمة. أما معظم النمو الاقتصادي، فيعتمد على القطاع الخاص، وتحويلات المصريين المقيمين في الخارج، وأنشطة خدمية كالسياحة، في ظل سيطرة نخب رأسمالية هشة، غير معنية بتحقيق تنمية اقتصادية حقيقية، وهي نخب صنعها نظام يوليو نفسه منذ السبعينيات.
كما انهار الحزب الواحد والصوت الواحد بمرور الزمن، وأصبح من المستحيل إعادة بنائهما
 في ظل التطور التكنولوجي، لذا باءت محاولات نظام السيسي للسيطرة المطلقة على الإعلام والحياة السياسية بالفشل، ويبدو السيسي حالياً رئيساً بلا شعبية أو كاريزما أو جهاز سياسي يدعمه. فبعد مرور أربع سنوات على ولايته وسيطرته المطلقة على الحياة السياسية في مصر، يبدو عاجزاً عن بناء أي مشروع سياسي متماسك، فهو بلا حزب سياسي أو برنامج واضح، وبات خطابه السياسي يفتقر لأي تصور متماسك سوى التخويف من الفوضى والإرهاب. كما فقد الإعلام الحكومي والرسمي منذ زمن قدرته على السيطرة على عقول المصريين، في ظل توفر عشرات أو ربما مئات المنابر الإعلامية الفضائية والإلكترونية البديلة.
ومنذ عام 1979 والنظام المصري جزء من المنظومة الأميركية، حيث تحرص الولايات المتحدة على تمويل الجيش المصري بحوالى ثلث ميزانيته العسكرية السنوية (1.3 مليار دولار) نظير التزامه باتفاقات السلام مع إسرائيل.
ومع تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية في مصر، باتت البلاد بلا نفوذ إقليمي يذكر، بل أصبحت تابعةً لبعض دول الخليج، الأصغر منها حجماً ومكانة سياسية في العهد القريب، بل بات النظام المصري متهماً بالتفريط في أرضه في مقابل منافع اقتصادية أو اتفاقات أميركية تخدم إسرائيل، والتي ينسق معها النظام المصري بشكل غير مسبوق، ويسمح لها بشن هجمات جوية على أهدافٍ في أراضيه، وفقاً لتقارير صحافية دولية.
وتبقى السيطرة الأمنية قاسماً مشتركاً بين نظامي يوليو والسيسي، مع بعض الفوارق المهمة كحالة الصراع بين جهازي الشرطة والجيش التي شهدها أواخر عصر مبارك، وانهيار سمعة جهاز الشرطة بعد انهياره خلال أحداث الثورة المصرية، والعقود التي عاشها الجيش المصري خارج السياسية خلال عصر مبارك، وافتقار قادته الحاليين للتنشئة السياسية التي تمتع بها قادة ثورة 1952 خلال العهد الملكي.
وقد تحافظ السيطرة الأمنية المطلقة على بقاء النظام، لكنها لا تكفي لإعادة بناء شرعيته، والتي أثبتت انتفاضة يناير تآكلها وانهيارها الداخلي، وقد أثبتت السنوات الأربع أخيراً عجز الرئيس السيسي عن بناء شرعية جديدة، ويبدو القمع الراهن وغير المسبوق للمعارضة السياسية (الضعيفة أصلاً) دليلاً على شعور النظام بأزمة عميقة تهدد وجوده.
فبدلاً من أن تكون الانتخابات الرئاسية المقبلة (مارس/ آذار 2018) فرصة لاحتفال الرئيس السيسي ونظامه بإنجازاتهم خلال السنوات الأربع الماضية، وبما بنوه منذ يوليو/ تموز 2013. بدت الانتخابات وكأنها فترة عصيبة وامتحان عسير لجأ فيه إلى اعتقال أهم منافسيه ورموز المعارضة السياسية وللاستخدام المباشر للغة الوعيد والتهديد في خطاباته. وهنا يمكن الحديث عن مواجهة نظام السيسي أزماتٍ أربعاً أساسية، تشكل محور أزمة شرعيته المفقودة، وقدرته على الاستقرار.
أولاً: غياب التنظيم والمشروع السياسي، وعجز السيسي عن الحوار مع مكونات المجتمع المصري المختلفة، ولجوئه إلى الحكم بالأمر المباشر عن طريق المؤسسات الأمنية، وفي مقدمتها القوات المسلحة، بما يعرّض شعبيتها لمخاطر السياسة الجمة والعميقة.
ثانياً: العجز عن تحقيق أي إنجاز اقتصادي سريع يصب في صالح بناء شرعية جديدة للنظام، بل ساهمت الإصلاحات الاقتصادية التي قام بها النظام في تضاعف الأسعار والتضخم وانخفاض قيمة العملة المصرية بأكثر من النصف. ولا يتوقع أن تنعكس تلك الإصلاحات، أو معدلات النمو الاقتصادي الراهنة (حوالى 4%) على تحسن أوضاع المصريين الاقتصادية بأي معدلاتٍ تذكر في السنوات المقبلة.
ثالثاً: يبدو النظام كأنه يواجه تحدياً داخل المؤسسات الأمنية نفسها، وداخل النخب الاقتصادية والسياسية الموالية لنظام مبارك، وذلك كما ظهر في ترشح سامي عنان القادم من الجيش،
 وأحمد شفيق مرشح نظام مبارك في انتخابات 2012، وكما ظهر في تغيير السيسي المتكرّر لبعض أكبر قادة القوات المسلحة والمؤسسات الأمنية، وفي مقدمتها الاستخبارات العامة.
رابعاً: يعيش محور الثورة المضادة الذي يقوده نظام السيسي وحلفاؤه الخليجيون (الإمارات والسعودية أساساً) مأزقاً إقليمياً ودولياً واضحاً، فدعم الرئيس الأميركي دونالد ترامب له لم يكن كافياً لتحقيق أي تقدم ملموس في ملفات أساسية، كالعلاقة مع قطر أو حرب اليمن أو حتى في العلاقة مع جماعة معارضة كالإخوان المسلمين. ويبدو نفوذ ترامب حالياً في تراجع أمام فضائحه الداخلية، وصعود نفوذ مؤسسات الحكم الرئيسية، كالدفاع والخارجية، والتي تطالب بممارسة ضغوط على النظم الخليجية والنظام المصري، تصب في صالح حل الأزمة الخليجية، والبحث عن مخرج بحرب اليمن، والحد من انتهاكات حقوق الإنسان، من دون المطالبة بإجراء إصلاحات ديمقراطية جادة. وهذا يعني أن إفراط النظام المصري في قمع معارضيه لا يرتبط بقرب الانتخابات أو بتحديات داخلية يواجهها بقدر ما يرتبط بشعوره الداخلي بالعجز عن بناء شرعية جديدة، يمكن أن يعتمد عليها في ولايته الثانية، وهو ما يرجح استمرار قمعه من ناحية، واستمرار ضعفه وهشاشته من ناحية أخرى، خصوصاً أمام عناصر التهديد الأربعة السابقة.
باختصار، عجز نظام السيسي عن بناء شرعية سياسية جديدة، وبات يعبر عن امتداد أزمة الشرعية التي أدت إلى سقوط مبارك ونظام يوليو في يناير/ كانون الثاني 2011، وهي أزمة مرشحة للاستمرار والتفاقم خلال ولاية السيسي الثانية، ولن يساهم لجوؤه إلى قمع معارضه في حلها، بل سيعمقها ويكشف ضعفه الداخلي، وعجزه عن التعامل بهدوء مع معارضةٍ ضعيفةٍ نسبياً.
ويبدو أن النظام المصري الحاكم يسير في اتجاه تراجعي، ما لا يعني انهياره المفاجئ كما حدث في يناير/ كانون الثاني 2011، فمثل هذا الانهيار غير مرجح حالياً، بسبب عوامل كثيرة، كالظرفين الدولي والإقليمي والاحتقان السياسي الداخلي، لكنه يعني تفاقم أزماته وصعودها على السطح باستمرار، وربما بوتيرة متصاعدة في الفترة المقبلة، وحتى يقر بحتمية التغيير.