هذا العزوف عن الأحزاب في تونس

هذا العزوف عن الأحزاب في تونس

20 فبراير 2018

تونسية ترتدي علم بلادها في مركز اقتراع (21/12/2014/فرانس برس)

+ الخط -
تشير غالبية استبيانات الآراء التي تتوجه إلى الكتلة الناخبة في أفق الانتخابات البلدية التونسية المقبلة إلى حالة من العزوف واللامبالاة غير المسبوقتين، منذ إطاحة الثورة التونسية نظام الاستبداد سنة 2011. ولا يمكن تبرير ما يجري بغياب الوعي السياسي في الشارع التونسي، لأن الجمهور العام أثبت، في محطات انتخابية سابقة، رغبة واضحة في المشاركة في الشأن العام، والسعي إلى تغيير الأوضاع في البلاد. وربما يعود المشكل الحقيقي لحالة العزوف الجماهيري عن الأحزاب السياسية وخطابها الرديء إلى جملة من الأسباب، تعود أساسا إلى الأزمات الهيكلية التي تعانيها هذه الكيانات الحزبية نفسها في مرحلة الانتقال الديمقراطي الحالية.
فالأحزاب السياسية التونسية تركز على المسألة الانتخابية فحسب، وعلى افتكاك المواقع من دون قدرة فعلية على تقديم برامج، أو القيام بتثقيف سياسي هو من صلب مهامها. والديمقراطية أعقد من أن يتم اختصارها في الانتخابات فحسب، وإنما هي منظومة الحقوق والحريات عموما، واحترام الأقليات أساسا. ومتى تم اختصار الفعل الديمقراطي في مجرد السباق بين المتسلقين السياسيين للمناصب (نجد له مثيلا في ظل أنظمة الاستبداد ذاتها) تفقد الديمقراطية جاذبيتها، وتدريجيا تصبح مجرد عملية ميكانيكية، يشارك فيها أتباع الأحزاب فحسب، ويغيب عنها الجمهور العام. وتؤدي حالة العزوف إلى مزيد من إضعاف شرعية السياسي وصعود الانتهازيين وغياب الكفاءات، لضيق مجال الاختيار، وهو ما يراكم الفشل الحكومي أكثر، وينهار المجال الخدمي أكثر، في ظل اتهامات متبادلة بين الناشطين الحزبيين المستأثرين بالغنيمة بأن الطرف الآخر هو الذي يمنعه من النجاح.

وتكمن إعادة جذور المشكل، في جانب كبير منه، إلى قوى حزبية معينة، أولها الأحزاب المؤدلجة التي غرقت في صراعاتٍ عقيمةٍ استجلبتها من الماضي. فالجبهة الشعبية والمجموعات القومية وحركة النهضة تستعيد خطابا اصطراعيا قديما، لا يقدم برامج تنموية، بقدر ما يركز على الخلافات الإيديولوجية، ومحاولة منع الخصم من الاقتراب أكثر من الجمهور، بل وتحضر الخلافات حول قضايا خارجية، وهذا يزيد في توتير الأوضاع أكثر مما يقدم حلولا للناس في مشكلاتهم اليومية، فدعم النظام السوري، أو الدفاع عن رؤى سياسية انقلابية، لا يتغنيان المشهد السياسي، بقدر ما يحيلان المشهد العام إلى جحيم خطابي، يصطلي عموم الناس بنيرانه، واستفادت منه قوى النظام السابق، لتعود إلى تصدر المشهد.
فالجبهة الشعبية التي اصطفت مع بقايا النظام السابق، ودعت إلى قطع الطريق على الرئيس السابق، المنصف المرزوقي، سنة 2014، نكاية بخصومها الإيديولوجيين، فوجئت بعدها بحلف حركة النهضة مع حلفائها بعد فوزهم في الانتخابات، وكان مبرر "النهضة" هو نفسه مبرّر الجبهة الشعبية، بمعنى قطع الطريق على الخصوم الإيديولوجيين الذين يدعون إلى استئصالها من المشهد السياسي. وقد دفع هذا السلوك الانتهازي من القوى السياسية التي استفادت من الثورة التونسية الجمهور العام إلى نوع من التحفظ إزاء العمل الحزبي، حيث لم يعد للبرامج معنى، ولا للاختلافات السياسية في تقدير الموقف دلالة.
وبعودة ديناصورات السلطة إلى الحكم، وهم في غالبهم من أتباع النظام السابق (40% من الوزراء الحاليين هم من نظام بن علي)، شعرت الفئات الشبابية الطامحة إلى التغيير السياسي، والتي كانت ترغب في إجراء قلب لطبيعة الأداء الحكومي بنوعٍ من الخيبة، حيث أصبح الولاء للأحزاب والعلاقات والنفوذ، بل والعلاقة مع النظام السابق، مصعدا سياسيا، يوصل إلى مواقع النفوذ والحكم بشكل سريع. ولأن الأداء السياسي بصورته الحالية لا يمكن أن يفضي إلى غير العزوف عن الأحزاب، ورفض الانخراط فيها، فإن الأمر قد ينتهي إلى حالةٍ من اللامبالاة من العملية الانتخابية برمتها، ومن فقدان أمل التغيير الذي تحرّكت لأجله الأجيال الشابة سنة 2011. وربما الأمل الوحيد في المشهد العام في تحول مسألة الحرية والمطالبة بالحقوق وحرية الاختيار وثورة الإعلام والاتصالات إلى حقيقة واقعة، لا يمكن للأجيال الصاعدة أن تتنازل عنها، وهو ما يجعل إمكانية الردّة السياسية إلى زمن الصوت الواحد أمرا صعبا. وهو ما يعني ضمنا أن الرأي العام التونسي بدأ بتمثل العملية الديمقراطية في جوهرها، أي بوصفها حرياتٍ عامة، وحقا في التعبير، لكنه يحتاج بعض الجهد من أجل تكريس فكرة التغيير السياسي الحقيقي من أجل إخراج البلاد من أزماتها الاقتصادية، وأن ما تفعله الأحزاب القديمة بإيدولوجياتها، بالإضافة إلى قوى النظام الاستبدادي المتنفذة، هو تعطيل هذا التحول خدمة لمصالحها، واستمرارية نفوذها، لكنها لن تستطيع منع التحول التدريجي الذي سيغير المشهد مستقبلا.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.