كلب الجارة المتخيّل

كلب الجارة المتخيّل

19 فبراير 2018
+ الخط -
تلعثم جزار الحي، حين وضعت السيدة الكيس أمامه على الطاولة، محاولةً ضبط نفسها قدر الإمكان، وهي تقول له: الكلب يشكرك بشدة على العظم الشهي.. رد بتوجس: أي كلبٍ تقصدين جارتنا؟. أجابت بلهجةٍ حازمةٍ لا تخلو من سخريةٍ وغضب: الكلب الأبيض الجميل الذي تراني كل يوم أصحبه في نزهةٍ يوميةٍ، وحين نعبر من أمام محلك يتباطأ الملعون، ويعوي بإلحاح، لعله يحظى بقليلٍ من العظم، تماماً مثل هذا الموجود في الكيس الذي ابتعته منك أمس على أساس أنه ثلاثة كيلو من اللحم، يباع بحسب التسعيرة الرسمية، لأكتشف أن ثلاثة أرباع الكمية عظم لا يصلح حتى للكلاب.
غادرت الجارة الشجاعة المكان، بعد أن سألته باستنكار: كيف تطعم أولادك من مالٍ حرام، من دون أن تخشى من العواقب؟ استعادت نقودها كاملة، وتوعّدته بالتقدم بشكوى لدى الجهات المختصة، إضافة إلى فضحه في الحارة، ورفضت قبول اعتذاره، غير مصدقةٍ حججه الواهية. ثم لم تنفذ السيدة أياً من تهديداتها، لقناعتها، بلا جدوى، لعب دور المواطنة الصالحة، والتبليغ عن المخالفة للجهات الرسمية، حتى فكرة الوشاية بفعلته للجيران، لكي يقاطعوه لن تأتي بنتيجةٍ عمليةٍ، لأن معظم الناس لا يميلون إلى اتخاذ أي قرار، مهما كان تافهاً، بناء على تجارب الآخرين، ويشعرون أنهم لا بد أن يتعرّضوا لتجارب مريرة تخصهم.
تلك طبيعة الأمور.. اكتفت السيدة بالمراهنة على صحوة ضمير الجزار الغشاش. قالت لي بفخر: لا أنكر أن شعوراً بالرضى عن الذات سيطر عليّ، كوني واجهته، ولم أسمح له باستغفالي. ... والحق أن سلوكها هذا يعد، في أحيان كثيرة، استثناءً وغير مألوف في مجتمعاتنا عموماً، ذلك أن مهارة المواجهة تكاد تكون معدومة في ثقافتنا التي تخشى التعبير الصريح والمباشر، وتصنفه، في أحيان كثيرة، سلوكاً وقحاً خالياً من التهذيب. يُقدم الزبون على دفع فاتورة المطعم الفادحة، المبالغ في قيمتها، من دون أدنى تدقيق، حفاظاً على صورته أمام المدعوين، كي لا يُتهم بالبخل. وتبتلع النساء الإهانات يومياً في أماكن عامة، ويتغاضين عن التحرّشات بكل أشكالها، تفادياً للفضيحة، ورعباً من تفاقم الأمور. ويحجم المثقف الذي يبشر بالقيم والمثل الجميلة في الحياة عن إبداء رأيه الصريح في مستوى كتابة صديقه المتدنية، أو مواجهته بنصيحة التوقف عن الكتابة مثلاً، بل تجده من أول المهنئين وأكثر المتحمسين لالتقاط صورة مع الكاتب غير الجهبذ، في حفل توقيع ملفق، ويشتري الكتاب متدني المستوى مجاملةً، ثم يرميه.
تدّعي الزوجة البلاهة والغباء، حين يعود الزوج من سهرة مع الأصدقاء وياقة قميصة ملطخة بأحمر الشفاه، ورائحة عطر نسائي نفاذة تفوح من ثيابه، لأنها لا تقوى على تبعات مواجهته بالحقيقة التي قد تكلفها تفكّك الأسرة وضياع الأولاد والتعثر المادي. حتى في علاقةٍ المفترض أنها حرّة بالمطلق، مثل الصداقة، فإنها تخضع للتواطؤ المقيت نفسه، حين نعجز عن مواجهة الصديق بذريعة اللباقة، بما يزعجنا من تصرفاتٍ تصدر منه، فنلجأ إلى الفضفضة والتعبير عن ضيقنا للآخرين، عندها نقع في مطب النميمة القبيح.
الأمر أبسط من ذلك بكثير، إذ يكفي أن يتحلى الواحد منا بقليلٍ من الشجاعة والصدق مع الذات، ومع الآخر، كيلا يضطر للبقاء في نمط علاقاتٍ مبنيةٍ على الزيف والاحتيال، وهو طريقٌ مربكٌ وباهظ، سوف يؤدي بنا، في نهاية الأمر، إلى إحساسٍ دائمٍ بالقهر والحنق، ويحيلنا إلى نماذج إنسانية مهزوزةٍ ومكسورة ومتلعثمة، عاجزة بالكامل عن التعبير عما يدور في رأسها، ما يجعلها مرشحةً للهزيمة الدائمة مع الذات.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.