عن الثورة المستقبلية

عن الثورة المستقبلية

19 فبراير 2018
+ الخط -
تتغير المجتمعات تقنيا أو سياسيا أو اجتماعيا وقيميا، أو في تلك المستويات كلها، غير أن ما تشهده الأقطار العربية، من العراق إلى المغرب، يكاد يشكل استثناءً في تاريخ الألفية الثالثة.
الجديد في الأمر الجمع بين الحرب الكلاسيكية، نموذج الحرب على العراق وعلى اليمن، وحرب أخرى إيديولوجية، صنعت في مختبر المخابرات والعلوم السياسية، وحتى الاجتماعية، لصنع غيلان الإرهاب من أمثال القاعدة وداعش، وعشرات من التنظيمات العنقودية، ومئات من الذئاب المنفردة. وذلك كله بترسانة من المعتقدات، تقتات من خليط من الأوهام والمعتقدات، تؤجج الوجدان نحو سلوك غاضب يدخل في مؤسسات الترويض ليخرج سلاحا فتاكا أعمى، يحرق الأخضر واليابس.
إضافة إلى الحروب والإرهاب، تأتي الاحتجاجات الشبابية الجديدة المتشبعة بروح العصر، والمعبرة عن نهاية المجتمع بتعبير الآن تورين، لتتجاوز الحزب والنقابة نظرا لموت المصنع؛ نحو آفاق أرحب من التعبير الإلكتروني، واحتلال الساحات وتنظيم المسيرات.
هذه هي الأفعال والوقائع، لكن السؤال المنهجي الأكثر إلحاحا: لماذا هذا كله؟ وكما أن هناك ثلاثي من التعبير عن العنف، هناك ثلاثي من العوامل: البترول، والتأخر التاريخي والفكري، والاستبداد.
حاول الاستعمار هندسة بنيات تستجيب لمصالحه الآنية والاستراتيجية، من دون أي مراعاة للبحث عن احترام ما لروح مجتمعات كانت لها هويات تشكلت عبر القرون، هويات ذات حضارة وأسلوب عيش، ليس بالمتمدن كفاية، لكنه لم يكن بدائيا ولا بدويا بالشكل الذي حاول أن يقنعنا به الاستشراق، مجتمع اتكأ، كجميع المجتمعات التقليدية، على قوتي الملكية العقارية والدين، على الأنظمة السلطوية التقليدية، وعلى الزوايا والتكيات والحنطات. بعد ذلك، حاولت الدولة المستقلة جاهدة تقليد مسار الدولة الأمة كما في أوروبا، غير أن تقاطع مصالح الاستعمار والسلط التقليدية لم يترك للمشروع أي إمكانية في النجاح.
الموجة الآتية مرتبطة بحقوق الإنسان، والدفاع عن كرامته، بالبحث في المقومات الأنثربولوجية التي تجعل من الإنسان إنسانا، عبر بوابةٍ رئيسيةٍ لا ترتبط، هذه المرة، بالإنتاج والمعرفة، بقدر ما ترتبط بالوجدان وكيفية تدبيره.
الأزمة الآن متمحورة حول الذات المؤسساتية والجماعية والفردية خاصة. ذات مغلولة؛ لا تعرف ما تكون؛ ولا ما تريد، ولا أين تتجه. هذا التيه المعرفي الوجداني هوما تستغله قوى تجارية تبيع كل شيء.
إن الثورة المستقبلية ستكون بدون شك ثورة العودة إلى الذات؛ ومحاولة تفكيك اللوغاريتمات المبرمجة؛ ليس للإدراك والمعرفة فحسب؛ بل وللسلوك؛ وأشكال التواصل وربط العلاقات؛ واحترام الآخر، وتقدير الحدود والمسافات. وهي ثورة غير مستقلة عما تمت رسملته سياسيا وحقوقيا، وعلى مستوى النقاش العمومي، لكن بعمق بيداغوجي أكثر دقة وأكثر جدوى.
المسافر إلى البلدان التي أنجزت الثورة الصناعية؛ والمنخرطة في الثورة المعرفية، لا يمكن إلا أن يلاحظ أول ما يلاحظ نظافة الشارع، ونظافة العلاقات الإنسانية المبنية على الملاءمة بين الفكر والرأي والقرار والتصرف، الأمر الذي يهب انسجاما كبيرا للشخص، وللعلاقة بين الذوات، وفق الحرية كأم القيم. عكس ما نشاهده تماما في حالنا من بؤس في الملاءمة؛ والهروب نحو النفاق؛ والقفز على الحبال؛ واعتماد كل أشكال الريع؛ من القرابة والمعتقد الضحل؛ حتى التجييش والدهاء، مرورا بالعبودية الطوعية والزلفى والولاء، كأننا لم نبرح عهود الظلام.
ستتمحور الثورة المستقبلية حول النقاش العمومي، حول الحياة الخاصة للفرد، حول حرية التصرف في الجسد والتحفظ ورسم الحدود وتدبير الذكاء الوجداني. هي قيم قديمة لا شك، لكن تأملها ووضعها فوق الطاولة للتشريح، ووضع القواعد أصبح أمرا ملحا، لمصلحة تفتح الشخصية والتماسك الاجتماعي، الأمر الذي أصبح ممكنا اجتماعيا ولتوفر وسائل التأمل المعرفي، إبستمولوجيا وبيداغوجيا.
القيم التي كانت تقننها الجماعة بالأعراف والمعتقدات، ستصبح بيد كل فرد يضبطها وفق الملائم للقيم الذاتية والمشتركة، شريطة الوعي بالبرمجة الذهنية والوجدانية للذات، والقدرة على تفكيكها وإعادة البرمجة كلما استدعى الأمر ذلك.
F103ACEE-0B16-4840-B9A7-80F65E4B72D2
F103ACEE-0B16-4840-B9A7-80F65E4B72D2
قسطاني بن محمد (المغرب)
قسطاني بن محمد (المغرب)