عقل استراتيجي للتغيير الكبير

عقل استراتيجي للتغيير الكبير

16 فبراير 2018
+ الخط -
من الأهمية بمكان أن نذكر، حتى نحمل مشروعا استراتيجيا يحقق كل الأمور التي تتعلق بمربع الاهتمام، إنما يتطلب عقلا استراتيجيا للأمة، آن الأوان للتأكيد على أهميته، والتفكير بحجم الإشكالات والتحديات وبحجم المتطلبات والاستجابات لهذا العقل الاستراتيجي الذي يستند في جوهره إلى قاعدة تتعلق بالتيار الرئيسي العام، فيحسن هذا العقل إدارة الصراع وإدارة الأزمات وإدارة الفرصة، ما يؤسس لعمل القوى الفاعلة في حركة التغيير، وتحديد كل المجالات الحيوية في مجالات الحركة ومساحات الفاعلية، من مربع الاهتمام إلى حركة الفعل والفاعلية والآليات في إطار الصناعة الاستراتيجية.
يعرّف بعضهم معنى الاستراتيجية بأنها عقل العمل، وهي في هذا المقام تشكل بصيرة وعي وجدية سعي. وعلى الرغم من أن مفهوم الاستراتيجية قد أطلق، في بادئ أمره، في المجال العسكري، مشيرا إلى أسلوب التحرك العسكري المخطط بإحكام في أثناء الحروب، بحيث يقدم البدائل، ويختار أفضلها من حيث الوصول إلى الهدف بنجاح تام، وبأقل خسائر ممكنة. ومن المهم كذلك أن نتعرف في معاني الاستراتيجية على المعنى الذي يؤكد على التخطيط المتكامل الذي يشتمل على الرؤية البصيرة الواعية، كما يشتمل على كل صنوف الحركة التي تتم في إطاره ويسمى ذلك تكتيكا. هذه المعاني إنما تتعلق بالأساس بالإرادة والإدارة والقدرة على إدارة الإرادة وإرادة الإدارة، إنها عمليات تؤكد على معاني الاستمرار والشمول والقدرة والتخطيط واستيعاب التغيير وقدرات التدبير والإرادة والتسيير. وفي هذا الإطار، فإن معنى الاستراتيجية في أهم معانيها هي التي تشكل "عقل العمل".
وعلى هذا الأساس، قلنا إن هذه الأمة تحتاج إلى عقل استراتيجي يجمع بين الإرادة والإدارة. 
وفي هذا المقام، يحسن العودة إلى المربع الذي يشتمل على أركان مهمة، تقدم في تفاعلها رؤية قادرة على التفكير والتدبير والتغيير والتأثير. حتى يمكنها تحقيق ذلك، عليها أن تتعرف على حجم الإشكالات، وتبصر كل التحديات، وأن تتعرف على مساحة المتطلبات وقدرات الاستجابات، إلا أن الحاضنة المهمة التي تشكل سندا لهذا العقل الاستراتيجي إنما يتعلق بالتيار الرئيسي للأمة الذي يحسن إدارة الصراع والقدرة التدافعية وإدارة الأزمات وإدارة الفرصة، ما يؤسس المعنى الذي يتعلق بساحات الحركة وإمكانات التغيير وأصول الفاعلية في هذا السياق. وجب علينا أن نشير إلى ما يحيط بهذه الأمة من مخاطر، وما يتولد من جوف تلك المخاطر من فرص.
النظرة الذي تحدثنا فيها عن أن الأمة في قلب الخطر إنما تعبر عن ظروف غاية في الاستهداف الاستراتيجي لقضية الأمة فلسطين، وكل العناصر الفاعلة في الأمة وكل خمائر مقاومتها. ويحاول هؤلاء الذين يقودون الثورة المضادة، وقد عرفوا ماذا يمكن أن تصنع الثورات، ضمن مسارات تغيير كبرى، أن المعركة لا بد أن تخاض الآن، من دون تأجيل أو إبطاء، وأن هذا الظرف التاريخي المواتي لعملهم المضاد يجب أن يستغل بكل طاقة، وبأقصى سرعة، إدارة ترامب، مصر الانقلاب، التحريض على تركيا وقطر، استهداف كل عناصر المقاومة، وذلك كله من أجل تأمين الكيان الصهيوني في وجوده واستمراره واستقراره، بل في التعايش معه والتطبيع في علاقاته.
يصاغ ذلك كله ضمن مقولةٍ ذاعت وانتشرت تتعلق ب "صفقة القرن"، نقول إن الثورة المضادة قامت بكل عمل ما من شأنه أن يحقق لها انتصارا مدويا لمصلحة الكيان الصهيوني، اعتقادا منهم أن البوابة الإسرائيلية أفضل طريقٍ يمكن أن يدخلوا منه، لتحقيق أمن كراسيهم وسلطان حكمهم، وربما في هذا السياق نقول إن التغيير المقبل بكثير من المؤشرات. وبعد هذا الحصار الذي فرضته تلك القوى على الثورات، واستطاعت، بشكل أو بآخر، أن تحقق بعض الانتصارات التي لم تكن في هذه المنطقة إلا في جو من الفرقة والفوضى وخطة للتقسيم والتفتيت والتجزئة. وهذه الأوضاع التي لا يمكن التحكم بها هي التي ستشكل، في ذلك الوقت، مقدمات لتغيير أكبر، التغيير المقبل قد يكون علينا، لكن التغيير الكبير سيكون لمصلحة إرادة الشعوب وإرادات التغيير والثورة، على شروط غاية في الأهمية. يجب أن نتعرف عليها، ونتجهز لذلك التغيير بوعي حاد وسعي سديد. الفعل الاستراتيجي عمل يبدأ تأسيسه من الآن على طريق التفعيل والفاعلية، حتى يمكننا أن نحدث التغيير المقبل ليكون في مصلحتنا، وحتى نرتاد به كل المجالات الحيوية للحركة والفاعلية.
في هذا التغيير الذي اجتمعت فيه تلك القوى، وأشار صاحب هذه السطور إلى أن بعض آثاره قد تكون علينا وليست لنا، يتطلب الأمر منا العمل في أربعة محاور:
الأول، الوعي بالتحديات واستثمار الفرص الكامنة فيها. آن الأوان أن نتعلم الرؤية التي تؤمن بتبيّن الفرصة والقدرة على اقتناصها، والعمل على تعظيمها، وإلا سنظل أسرى في سجون إهدار الفرصة تلو الفرصة، ولا نحقق أي تقدم على طريق التغيير المأمون، الجذري والشامل.
الثاني، يتعلق بالحفاظ على الخمائر، خمائر العزة والكرامة والمقاومة. مشروع المقاومة يمكن أن يتقدم أو يتأخر في إطار التعرّف على فن التقدم والتأخر، فيتخير مسارا أفضل للحفاظ على خمائر القوة والمقاومة، خمائر الوعي وخمائر المواجهة والتراكم المطلوب على طريق استثمار ذلك في جنبات الأمة، إعدادا لمشروع التغيير الكامل.
الثالث، يتعلق بتقليل الخسائر، ذلك أننا لو خضنا معركةً لا تتمتع بكثير من قواعد الندية 
والتكافؤ، فإن علينا حينما تأتي هذه القوى العاتية في ظروف غير مواتية بالنسبة لأطراف المقاومة والثورة أن تقلل الخسائر إلى حدها الأدنى، وتفتح الطريق لصناعة كل عناصر الإرادة والقوى، في إطار يسمح بالحفاظ على تلك القوى، ضمن معركة المصير والتغيير الكبير.
المحور الرابع، لا بد أن يصنع بيئة من الوعي والسعي والفعل والتفعيل والفاعلية، لتحقيق شروط الإقلاع والانطلاق إلى التعرف على مسارات التغير المقبل، وقدراته، والعمل من أجل بلوغ أهدافه ومقاصده.
تحتاج هذه المحاور الأربعة إلى تخطيط استراتيجيات، ورسم خطط وتقديم آليات ضمن المقدمات لمعركة التغيير الكبير. وفي هذا الإطار، فإن التغيير الكبير الذي سيكون لنا بإذن الله لا بد وأن يعتمد نظرية الساقين، ساق سياسية واجتماعية واقتصادية وساق ثورية وتغيرية ومقاومة في معركة النفس الطويل التي تخوض ملحمة تغيير قادمة آتيه لا محالة، خصوصا أن الذين ينشدون استقرار عروشهم ستأتي عليهم عوادي التغيير الذين لا يستطيعون لها دفعا، بل بفعلهم هذا إنما يقدّمون تلك المقدمات لهذا التغيير. وآن الأوان في هذا المقام أن نؤسس لعناصر التغيير الناضج لعلم مراحل الانتقال ومتطلباتها، خصوصا في بناء نخبة شبابية جديدة، آن الأوان أن تقدم نفسها، وتتصدر المشهد، وتحمل رؤى واضحة في بناء منظومات الحكم الرشيد، وسياسات التمكين المجتمعي، وبناء استراتيجية للعدالة بمعناها الواسع، والعدالة الاجتماعية بمعناها الراسخ. هنا فقط، نكون قد استطعنا أن نقدم مشروعا يرتبط بالشارع، ويتلمس مطالبه وضروراته، ويؤسس لمعاني الشرعية الحقيقية من الرضا والقبول الشعبي. هنا فقط يمكن أن نقدم رؤية واعدة وواعية للتغيير الكبير.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".