بائع الحبال الذي اشترى عوداً

بائع الحبال الذي اشترى عوداً

15 فبراير 2018

(مارك شاغال)

+ الخط -
أحبَّ تاجر حبال وحُصر من أواسط صعيد مصر "حكيمة" في مستشفيات وزارة الصحة من السيدة عيشة في أواخر الستينيات، وكان لها في الطرب وحب الغناء، هاوية فقط، بعدما طُلقت بعد فترة زواج قليلة، وقالت لبائع الحصر، شرط دلال للزواج: هل لو طلبت منك أن تشتري لي عوداً تقول عنّي مجنونة؟ فرد عليها تاجر الحبال بجدية: وعليّ اليمين، لو كان العود في كردفان العبد، لأشتريه. فضحكت الحكيمة، حتى تراخت من فرط الدلال، وقالت: خلاص اتفقنا.
جاء والدها بعد أسبوعين من السيدة عيشة، وكان في المعاش ومحبّاً للضحك، ومدمناً على شراء الجرائد كل يوم. وأجّر لها تاجر الحبال مقعدين في بيت ببلكونة، وكان الجهاز بسيطاً، واشترى لها العود مع الدولاب والسرير النحاس أبو شخاليل. يذهب بائع الحبال، بجلبابه الصعيدي، إلى الأسواق، أو إلى دكانه المليء حتى السقف بالحبال والأرسنة والأسبتة والمقاطف السعف والمقاود القوية، والتي غالباً ما تكون من الليف، للجمال أو للعجول العلف والجاموس والبقر، ويعد لنفسه القهوة على "السبرتاية"، مثل عاشق نال مراده.
يحسب فلوسه، ويحرق في السجائر، وأم أولاده صابرة في الدكان، بجوار المقاطف والحبال والحصر والعيال الصغار، والحكيمة مع الراديو في البلكونة تردّد، بتنغيم من خلف، الأغاني الشائعة لنجاة الصغيرة وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم، وكل آن تضحك قائلة: "والنعمة الشريفة، البدلة تِخيل فيك". كان تاجر الحبال جميلاً. كانت الحكيمة كل أسبوعين تسافر للسيدة عيشة لزيارة أمها المريضة، فيرسل معها اللحم والسمن، وأم العيال في الدكان صابرة لا تتكلم، وتاجر الحبال يزيد في حرق السجائر وشرب القهوة، ويحسب فلوس الدكان، حتى زادت عليه الديون. والحكيمة بدأت تهمل في زينتها المعهودة، حتى أنها باتت لا تقترب من العود. وفي البلكونة، من غير سبب، في ساعة صفاء قالت له: "أنت باين عليك تعبت منيّ وديونك شكلها كترت"، فلم يرد.
بعد أسبوعين، تم الطلاق في هدوء ومن غير زعل. وهي بعد شهرين نقلت نفسها إلى بنها العسل. والغريب أن تاجر الحبال ظل سنواتٍ وفيّاً لذكراها، ويزورها في المواجب في بنها العسل، حتى بعدما تزوجت من صاحب قهوة، وأنجبت ولداً أسمته سهران، على ذكرى أسم أول أغنية سمعاها معاً في البلكونة. وظل تاجر الحبال يحكي الحكاية، حتى صارت من النوادر التي تُحكي عقوداً في المجالس، وخصوصاً حكاية العود والولد سهران. وزادت الناس كلاماً أن تاجر الحبال كان ينوي أن يشتري لها في البيت "مرجيحة" مثل العيال الصغار، حتى قيل إنها هي التي ضحكت وقالت له: "يا راجل، عيب ما تضحكش علينا البلد". فهل تصدّق أن هذا تم من تاجر حبال في الصعيد، في دولة صار تعدادها ما يوازي مائة مليون نسمة، ويحكمها رئيس  يقول عن نفسه إنه حكيم الفلاسفة وفيلسوف الحكماء، وإنه ظل خمسين سنة يتعلم ما هي الدولة، ثم يقول من أيام، من دون أن يدري: "أنا مش سياسي"، فسوّقت عليك النبي: زغرودة يا أم سهران، من عندك، أنا كنت ما زلت في بنها العسل.