انقلابات العسكر أم ثورات الشعوب؟

انقلابات العسكر أم ثورات الشعوب؟

14 فبراير 2018
+ الخط -
مع تصاعد نضالات حركات التحرّر الوطني ضد المستعمرين الغربيين لدول العالم الثالث في مطلع القرن العشرين، وخصوصا مع الاختراق الذي أصاب الحلقة الأضعف في سلسلة الرأسمالية العالمية آنذاك (ثورة البلاشفة الروسية عام 1917)، وما منحه من أمل للتخلص من السطوة الاستعمارية التي اشتغلت على نهب مقدّرات الشعوب بشكل شرس، وتحويل بلدانها إلى سوق تصريف واسعة، دأبت القوى المستعمرة إلى المماطلة والتسويف في منح هذه البلدان استقلالها السياسي، ساعية، في الوقت نفسه، إلى تلغيم هذا الاستقلال في حال تحققه، عبر ركائز احتياطية طبقية وعسكرية، ستعمل لاحقاً على ديمومة مصالح هذه القوى الاستعمارية، ومنع هذه البلدان من تحقيق استقلالها الناجز، وهذا ما تحقق عملياً من خلال المؤسسات العسكرية الوليدة، والتي تخلت عن مهمتها الأساسية في الدفاع عن الأوطان، لصالح تعميم ثقافة الخوف والرعب، بالتعاون مع أجهزة قمعية متوثّبة على الدوام، وجاهزة للبطش بأي حراك جاد، يعمل ليكون بديلاً لأنظمة الفساد والاستبداد. ولذا، تم وأد أية محاولة لنشوء رأسمالية وطنية، تحمل مشروعاً ليبراليا يمهد لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية المستندة إلى سيادة القانون والمؤسسات والمواطنة وتداول السلطة.
ويتمثل المثال الأبرز لهذ الظاهرة في الحالة السورية، والتي كانت الانقلابات العسكرية المتتالية بُعيّد الاستقلال في خمسينات القرن المنصرم موضع تندّر ودهشة لمراقبي أحداث تلك المرحلة الدراماتيكية، ما جعل العسكر في الواجهة لعموم الدول في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، إلى درجة جعلتهم الوكلاء الحصرييّن ونواطير لمصالح أسيادهم في الغرب والشرق في جمهوريات ناشئة عملت على تصحير العمل السياسي، وجعله شأناً عائلياً، مكرسة كل المنظومات وبناها الفوقية، والتي تعود إلى مكوّنات ما قبل الدولة الوطنية، كالقبلية والطائفية والإثنية لديمومة سطوتها، منعاً لتوفير أي شروط كفيلة بتحقيق الوحدة الوطنية المأمولة والنظام السياسي التعددي والرشيد، بل عملت على تسويق مفهوماتها الزائفة على حساب منظومة القيم الأصيلة، والتي كرستها العهود الوطنية التي صنعت الاستقلال بالأمس، وأجبرتها الانقلابات العسكرية على مغادرة المسرح عنوة.
لقد أوصل العسكر هذه البلدان إلى الطرق المسدودة، حيث غابت التنمية الجادة، وانتشرت عشوائيات المدن، وعمت البطالة وزاد التضخم في اقتصاداتها، ودُمّرت بنية القطاع الزراعي، ما عرّض السواد الأعظم من هذه الشعوب إلى الفاقة والحرمان، وأصبح تأمين لقمة العيش الكريمة عزيزة عليها، خصوصا بعد الأضرار البالغة التي لحقت بالطبقة الوسطى وانزلاق أغلب شرائحها إلى القاع الطبقي المُعْوِز.
يضاف إلى ذلك سطوة الاستبداد للفئات الحاكمة ونمط استهلاكها الاستفزازي وسرقة المال العام والاستحواذ على النسبة العظمى من الدخل القومي، وقد أدى هذا كله إلى انسداد الآفاق والسبل أمام أجيال شابة تعاني الحرمان والإخفاق والفقر والقلق، ليشكل كل ذلك التراكم الذي أدى إلى انعطافة ثورية في العالم العربي، تجلت بثورات الشباب وحراكها الواسع في مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، والتي سميت ثورات الربيع العربي، في مناخ غاب عنه العمل السياسي عقودا، وافتقرت الجماهير لقدرات تنظيم نشاطاتها وحراكاتها المختلفة، فنزلت بصدورها العارية محطّمة جدران الخوف والرعب، ومسطّرة ملاحم من الرجولة والبطولة التي قلّ نظيرها، ساعية نحو إنهاء حقبة الاستبداد والفساد، وآملة بالعبور نحو الدولة الوطنية العتيدة.
لكن قوى الثّورة المضادة كانت لها بالمرصاد، هذه القوى التي عملت على الدوام في أجواء من الاحتراس والتحفّز لاحتواء أي حراك والعمل على قمعه إن تطوّر، من خلال جيش من المخبرين والعتاة تم تجهيزهم على أكمل وجه من أجل التصدي لقيامات الشعوب إن دقت ساعاتها.
استغلال الغرب لثورات الربيع العربي لصالح أجنداته وأطماعه وعدم انتصاره لها، شكّل عاراً كبيراً على دعاة الديمقراطية وكشف زيف توجهاتهم ونفاقهم، مؤكدين بأفعالهم ومواقفهم المنافقة استمرارهم بالدفاع عن وكلائهم وحراس مصالحهم في العالم العربي، ووقوفهم ضد إرادات الشعوب وأحلامها، متناسين أن الأسباب التي أدت إلى اندلاع الثورات ما زالت باقية، بل أصبحت أكثر هولاً وتعقيداً مما سبق، وهذا يؤكد ومن جديد أن ثورات الشعوب ستندلع مرات ومرات، حتى تحقق غايتها المتمثلة ببناء دول رشيدة، توفر الحرية والعدالة والكرامة لها.