ومن الحبّ ما قتل

ومن الحبّ ما قتل

13 فبراير 2018
+ الخط -
يُصادف غدا الأربعاء يوم العشّاق، سان فالانتاين، الذي بات يُحتفى به في أنحاء المعمورة. دببة عملاقة وصغيرة حمراء، وقلوب حمراء، وورود حمراء، وعلب حمراء فيها هدايا مغلّفة بورق أحمر وشرائط حمراء.. الأحمر سيّد الألوان ليومٍ بأكمله، ذلك أنه رمز العشق في أعلى درجاته. لكنه، أحيانا، أيضا، لون الدماء حين يصير الحبّ غدرا وتخلّيا وخيبةً وخيانة، قاتما، خانقا، متحوّلا إلى الدخول فيه إحباطا وهلاكا للقلب والروح.
في المسرحية التي حضرتُها متأخرةً عند عرضها لأيام في مسرح زقاق، وتحمل عنوان "جوغينغ – مسرح قيد التطوير"، نحن في حضرة نساء عرفن تجربة هلاك الروح والقلب تلك، وفي حضرة ممثلة عملاقة تؤدي أدوارهنّ جميعا. أجل، لقد ظهرت حنان الحاج علي عملاقةً في مسرحيةٍ من تأليفها وتمثيلها (بالتعاون مع إغيك دونيو وعبدالله الكفري)، هي التي التفتتْ الى تلك النسوة اللواتي أماتهنّ الحب، فقتلن الحياة من حولهن وفيهنّ. وهي إذ تفعل، تذهب بدرجات الأداء إلى أقصاها، حيث التراجيديا الإغريقية والرمز والأسطورة، لتعود فتنزل بها إلى وحول الواقع، بكل ما يحوي من مآسٍ وسخريةٍ سوداء.
نحن، بدايةً، في حياة حنان الحاج علي، امرأة خمسينية متزوجة وأم، تنزل كل يوم إلى شوارع بيروت لتمارس رياضة الركض، تنحيفا لكيلوغراماتها الزائدة، وتقوية لعظامها، وتهوئة لأفكارها. نحن في الداخل وفي الخارج معا، مع امرأة ومواطنة وممثلة تهجس بدور استثنائي، هو دور ميديا التي أغرمت بجازون، فبذلت له الغالي والرخيص، وخانت أهلها، ثم اكتشفت أنه يستعد لخيانتها بزواجه من امرأةٍ أخرى، فأهدت عروسه ثوبا مسمّما، وقتلت ولديها، وقطعتهما أشلاء انتقاما منه. تراجيديا إغريقية من تأليف يوريبيدوس، أجل، أغرت السينمائي بازوليني وآخرين بإعادة كتابتها، لكنها في عيني حنان تعدو أن تكون مجرّد دورٍ تحلم كل ممثلة بأدائه، لتجسّد منطقة الظلّ في حياة كل امرأةٍ، كل أم.
تتساءل حنان كيف تراها تصدّق أن أمّا تقتل أبناءها انتقاما، فتتذكّر ما عانته هي أعواما مع مرض ابنها، حتى تمنّت موته، لكي يتخلّص أخيرا من عذابه، ثم يستدعيها الواقعُ في "جريمة بحر صاف" وقصة إيفون (غريس كسّاب) التي قررت يوم 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2009 أن تنهي حيوات بناتها الثلاث، 13 عاما، و10 و7 أعوام، قبل أن تتبعهن هي أيضا إلى الموت. كانت إيفون التي ضجّت البلاد بخبر موتها قد سجّلت لزوجها المسافر منذ عشر سنوات إلى البحرين، ليعمل لدى شيخٍ في تربية الخيول، شريطا صوّرت فيه بناتها وهن يتناولن سلطة الفاكهة، حيث دسّت سمّ الفئران، ثم يأوين إلى النوم وهي معهن. لم تقل أكثر من أنها ما عادت تحتمل العيش في الشريط المصوّر الذي اختفى لدى القوات الأمنية. إيفون الأم المثالية والزوجة المثالية، كما وصفها أقرباؤها، لم تحتمل خيانات زوجها وفكرة أن تعرف بناتها العذاب نفسه، فقرّرت لهن ولها الموت حبا وانتقاما.
ومثل إيفون وشريطها المصوّر الذي فقد ولم يعرف محتواه، كانت قد فعلت ميديا التي تعود إليها حنان، مستخدمةً مقاطع من مسرحية يوريبيدوس، ثم من نصوص أخرى لشكسبير وفيرجينيا وولف وهاينر موللر وسواهم، كاسرة التراجيديّ باليوميّ، والواقعي بالأسطوري، والمبكي بالطريف، فلا يكاد المشاهد يلتقط أنفاسه، حتى تستحضر زهرة، السيدة الجنوبية التي تعيش في ضاحية بيروت، والتي أغرمت في السبعينيات بالرفيق محمد، "حب ونضال، فن ويسار، قضية فلسطينية، قومية على أممية، اشتراكية على بعثية على حركة وطنية على مقاومة"... فتزوجا وأنجبت له ثلاثة شباب، استشهد منهما اثنان في الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006. ضجر محمد من زهرة، فتزوج بأخرى شابة، وها هي زهرة، في تنويعةٍ جديدة لميديا، تفقد ابنها الثالث مقاتلا في أقصى الشمال في سورية. وعبر رسالةٍ، كان قد أرسلها إلى أمه، نكتشف أنه كان قد رفض مهاجمة الناس المساكين، لأنه لم ير بينهم إرهابيين ومخرّبين، فكان أن اتُّهم بالجبن والخيانة وعوقب كعميل.
جدير بالقول إن حنان الحاج علي رفضت إخضاع نصها لقسم الرقابة في الأمن العام اللبناني، مبقيةً عروضَها كلها مجانية.
هذي مناسبة لتوجيه تحية حبّ إلى هذه الممثلة التي ارتقى الأداءُ معها إلى فعل عشق.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"