لا للفيدرالية في ليبيا

لا للفيدرالية في ليبيا

13 فبراير 2018
+ الخط -
تعرض هذه المقالة لمخاطر على ليبيا التي خرجت من أربعة عقود من الدكتاتورية منهكة على كل الأصعدة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية، لتدخل إلى نفق مجهول المعالم، حيث اتسعت دائرة المطالبات بالنظام الفيدرالي شرقي البلاد، خصوصا مع الإعلان عن أول حكومة انتقالية برئاسة عبد الرحيم الكيب، واتهام الشرق للغرب بالاستحواذ على الوزارات السيادية، حيث اتخذ الصراع في ليبيا ما بعد معمر القذافي بعداً خطيراً، ينذر بتقسيم البلاد إلى دويلاتٍ قبليةٍ، شرقاً وغرباً وجنوباً، وصل إلى إعلان زعماء قبائل وسياسيين ليبيين منطقة برقة "إقليماً فيدرالياً اتحادياً"، واختاروا أحد أقارب الملك إدريس السنوسي رئيساً لمجلسه الأعلى.
ويعلم الجميع أنه لم يتشكل لدى سكان ليبيا وعي سياسي ذو قيمة بمكون الدولة، وأهمية الاستقرار في حياة الشعوب لعدة أسباب، ثقافية واجتماعية وديمغرافية، لا تخفى. حتى إبّان الغزو الإيطالي لها، كان من أهم دواعي استمرار المقاومة هو تمسك السكان الرحل بحياة البدو التي تتطلب الانتقال من مكان إلى آخر، حسب مواسم عرفوها فألفوها منذ القدم، طلباً للكلأ والمرعى، حيث تقاطع ذلك مع سياسات الإدارة الاستعمارية لتجميع السكان في الساحل، فأنفة قبائل برقة مثلاً، وكذلك بطون قبائل سهل الجفارة في الغرب، أبت عليهم ذلك، فكان جهاداً مشرّفاً من زعماء عشائر آمنت بحقها في تقرير مصيرها، وفق ما اعتادت وألفت.

وإلى أن تشكلت هيئة اللجنة الرباعية في أكتوبر/ تشرين الأول 1947 من وكلاء وزارات الخارجية للدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، لكل من بريطانيا وفرنسا وأميركا والاتحاد السوفييتي، للنظر في إمكانية منح ليبيا نوعا من الاستقلال الذاتي المؤقت، حتى ذلك الوقت لم تتبلور فكرة إقامة الدولة الليبية بشكل كامل بعد، خصوصا في المناطق الغربية والجنوبية. وما يتوجب ذكره أن برقة، بسكانها قليلي العدد نسبياً في ذلك الوقت، وتعدد قبائلها، كان لها السبق في المطالبة باستقلالها، تحت قيادة الأمير إدريس السنوسي الذي تلقى وعداً في أثناء الحرب بأن يمنح ذلك الإقليم هدية لاستعمال جنوده إلى جانب الحلفاء.
كانت تلك بداية بزوغ بذرة إقليم برقة للوجود، يمكن أن ينمو مستقلاً عن جسم ما بات يعرف القطر الليبي، حسب ما كان متداولا. بالطبع، لم تنشأ تلك الفكرة وتكبر، ثم يكثر مؤيدوها، في منأىً عن تجاذبات إقليمية ودولية كثيرة، كان أهمها ما عرف فيما بعد بمشروع "بيفن سفورزا" الشهير لسنة 1949، والذي نصّ، في أهم مواده، على تقسيم ليبيا إلى مناطق نفوذ بين الدول الاستعمارية القديمة الثلاث. من غير شك، كان آخر هم سكان برقة من البدو، في ذلك الوقت، الحديث عن دولةٍ مستقلة، فلم يكن الواقع الاجتماعي والثقافي متطوراً إلى درجة أن ينشأ معها رأي عام فاعل، يمكن أن يعتمد عليه في تقرير مسائل كهذه. ورد في أحد التقارير التي أعدتها هذه اللجنة التي طافت أرجاء ليبيا، لتُقصي إمكانية منح الاستقلال لهذا البلد "أنها ميؤوس منها"، وكان ذلك واقعاً، فلا ماء ولا زراعة ولا صناعة ولا اقتصاد، ممزوجاً بالفقر والجهل. كان ذلك بالتأكيد قبل أن يشتم هؤلاء رائحة القطران الذي تعوم فوقه أرض ليبيا ولا أحد يعلم بذلك.
لا بد من أن تكون ليبيا دولة واحدة مستقلة بحدودها المعروفة، والتي تكونت فقط مع نهاية القرن التاسع عشر، ثم رفض الاستعمار الإيطالي التقسيم عام 1922، بحيث تكونت هذه الرقعة من الأرض في شمال أفريقيا وحدة واحدة عانت ويلات الاستعمار. وقد حافظت ليبيا على كيانها الواحد مع نهاية الحرب العالمية الثانية، على الرغم من مناداة بعضهم بالفيدرالية، لتتكون ليبيا المملكة من جديد من ثلاث ولايات فيدرالية، غير أن هذا النظام فشل، لتعود ليبيا إلى دولة واحدة.
يجب أن تبقى ليبيا كما هي منذ عام 1963، وإن كان هناك من يؤيدون اللامركزية المطلقة التي تعتمد التقسيم الإداري المتطور مع منح سلطة للمجالس المحلية في التقسيمات الإدارية، والحفاظ على سلطة قوية في الوزارات السيادية، المتمثلة في الخارجية والنفط والداخلية والدفاع.. وأي محاولة للرجوع بليبيا إلى مرحلة الولايات الثلاث (ما قبل 1963) غير عملية، ولا تتماشى مع تحديات هذا العصر. فليس معقولا في هذا العصر الذي تسعى فيه دولٌ كثيرة إلى التجمع، أن نبتعد من بعضنا بعضا. بمعنى إذا كانت أوروبا على سبيل المثال، والتي فيها عشرات اللغات وعشرات الأقوام، وشنت شعوبها حروبا مدمرة عديدة ضد بعضها بعضا عشرات السنين، ها هي اليوم تسعى إلى تشكيل دولة واحدة، أليس الأجدى أن نقلدهم على الأقل. وبمعنى آخر، تلك الفترة من تاريخنا التي لازال يحن لها بعض منا تجاوزها شعبنا، ولا يمكن أن تكون الحل الصحيح والجاد للتحديات التي تواجهنا اليوم. وإذا كان هذا هو الواقع اليوم في كل بقاع الأرض، وفى ثقافة كل الشعوب المتحضرة، فما هو الداعي بالرجوع إلى الخلف.
ما يحدث اليوم في المنطقة الشرقية في ليبيا، من المناداة بقيام إقليم برقة كيانا فيدراليًا ضمن الدولة الأم، يمكن أن يسمى ظاهرة، ولا يرقى إلى مستوى الحراك السياسي المؤثر، بقدر ما أنه امتداد لما كان يعرف بتيار الجبهة الوطنية، في نهاية عقد الأربعينات، المنادي باستقلال إقليم برقة، والذي تطور فيما بعد إلى ما عرف بالمؤتمر الوطني، وذلك عندما بدأت الإدارة العسكرية بتسليم بعض الصلاحيات للأمير إدريس السنوسي، ليتولى زمام الأمور هناك أميرا على برقة، وما جاورها من أنحاء. كان ذلك متماشياً تماماً مع ما جاء في مقترح بيفن سفورزا سابق الذكر، على الرغم من المعارضة الشديدة التي ووجه بها هذا الاتجاه من أنصار ما عرفت بجمعية عمر المختار. ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه في فترة سابقة، ممثلاً في شخص أحمد الزبير السنوسي، الذي أعلن رئيساً لمجلس إقليم برقة، الذي كان مزمعا تشكيله مجلسا منفصلا عن المجلس الانتقالي المؤقت.

في هذا المجال، يخطئ من يظن أن الدعوات الانفصالية لإقليم برقة عن جسم ليبيا توقفت أو فترت، حتى في عهد القذافي، بل كانت تلك الدعوات، في أوقات كثيرة، تصل إلى درجة المناداة بالانفصال التام دولة مستقلة، ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة أسباب ذلك، على الأقل خلال الأربعين سنة الأخيرة، فذلك يطول شرحه. ويخطئ من يظن أو يتوقع، من دُعاة فيدرالية برقة، أنه بمقدورهم أن يُكوِنوا إقليماً نموذجياً في البدء، أو دولةً متكاملةً في النهاية المتوقعة، خصوصا في ظل النظرة الضيقة، لوجود بعض الموارد الناضبة من السائل الأسود، في ظل منطقةٍ يجب أن تبدأ إعادة الإعمار من الصفر، ونسوا أو تناسوا، أن هذا العصر هو عصر التكتلات الاقتصادية والبشرية، وهذا ما تسعى إليه دول ذات اقتصاديات كبرى، فما بالك بالأقزام من الدول وأشباههم، ممن لم يتشكلوا بعد.
هذا بالإضافة إلى أن الواقع الحالي في ليبيا يحتم الإسراع في إيجاد موارد بديلة، ولن يتأتى ذلك إلا بوحدة هذه البلاد الترابية أولا، تحت حكم نظام ديمقراطي يحكمه دستور واقعي وحديث، إضافة إلى استغلال كل الموارد البشرية والاقتصادية المتاحة، للحاق بركب الحضارة، أو على الأقل تقفي أثر الحضارة، ولنا في بلدان كثيرة خير مثال، خصوصا التي يتشابه واقعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي مع بلادنا.
avata
avata
نجاح عبدالله سليمان

كاتبة مصرية

نجاح عبدالله سليمان