تسجيل الناخبين وفرصة الحل السياسي في ليبيا

تسجيل الناخبين وفرصة الحل السياسي في ليبيا

12 فبراير 2018

ليبي يقترع في انتخابات المؤتمر الوطني بتاجوراء (7/7/2012/فرانس برس)

+ الخط -
بينما تزايد في ليبيا عدد المسجلين لدى المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، بدت ظواهر أخرى تجمع ما بين السلوك السياسي السلمي وزيادة العنف والنشاط العسكري في شرق ليبيا، وهو يكشف عن معضلةٍ في السياسة الليبية، تتعلق بتزامن الانتخابات والاضطرابات الأمنية، ما يثير التساؤل بشأن مدى قدرة خريطة الأمم المتحدة والنظام الانتخابي على الانتقال نحو الحل السياسي.
وفي سياق التحضير للحل السياسي، قامت استراتيجية مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا، غسّان سلامة، على بناء شبكة اتصالات غير تقليدية، تساعده في تجاوز القيود التي فرضتها الأزمة السياسية، وكانت جولاته في المدن والبلديات، ومحاولات إدخال ديناميات جديدة من عوامل رئيسية، ساعدت في خفض التأثير النسبي لأطراف الصراع المسلح، وعودة عدد من السياسيين إلى العمل من داخل ليبيا، كما عمل على ترويجها في البلدان الغربية، تحظى الانتخابات، كآلية للتغيير السلمي، باهتمام الدول الغربية، حيث لقي مشروع الأمم المتحدة للانتخابات دعماً مالياً من ألمانيا، وذلك بالإضافة إلى كل من هولندا وفرنسا وإيطاليا. كما حافظت دول الجوار على التواصل مع المؤسسات القائمة؛ البرلمان ومجلس الدولة وحكومة الوفاق، وبشكل يحفظ الحد الملائم من التلاقي مع السلطات الدستورية في ليبيا، والابتعاد عن النزاع الداخلي، لدعم الحل السياسي والبحث في المشاريع المشتركة.

تطور سجل الناخبين
مع بداية الفترة الانتقالية، واجهت العمليات الانتخابية في ليبيا مشكلات غياب السجل الوطني للناخبين، وهي مشكلات ترجع إلى عدم انعقاد انتخابات في الدولة أربعين عاما، وتباطؤ التقدم في برنامج "الرقم الوطني". وشكلت انتخابات المؤتمر الوطني، في يوليو/تموز 2012، المحاولة الأولى لتسجيل الناخبين. وكانت المحاولة الثانية في تكوين سجل الناخبين، مع انعقاد انتخابات للهيئة التأسيسية، وهي مرحلة شكلت أساس السجل الانتخابي بشكل تراكمي، تبلور لاحقا في انتخابات البلديات ومجلس النواب.

وشكّل تسجيل الناخبين لانتخابات المؤتمر الوطني النسبة الأعلى على مستوى الفترة الانتقالية، حيث بلغ عدد المسجلين 2865937 ناخباً، بما يمثل 80% من تقدير أعداد الناخبين على مستوى الدولة. ولا يعدّ تفسير ارتفاع نسبة التسجيل أمراً عسيراً، فقد جاءت هذه الانتخابات في سياق التطلع الثوري إلى التغيير وإعادة بناء الدولة، ولم تظهر الانقسامات السياسية أو الاجتماعية في تلك الفترة.
وفيما يتعلق بالتسجيل لانتخابات "الهيئة"، تضافرت ثلاث جهات لحفز الناخبين على التسجيل في الدوائر الانتخابية، حيث توافقت المفوضية الوطنية العليا مع مصلحة الأحوال المدنية ومشروع الرقم الوطني ومنظمة الأمم المتحدة، على حزمة إجراءاتٍ للتغلب على مشكلات التسجيل المتعلقة بالرقم الوطني، حتى بلغ عدد المسجلين 1.101.541 ناخباً. وهناك تفسير لانخفاض عدد المسجلين في انتخابات الهيئة التأسيسية، خلال المراحل الأولى للتسجيل، يرجعها إلى حالة الإحباط، بسبب تفاقم الأزمة السياسية، وتعقدها في فبراير/شباط 2014، وتدهور الوضع الأمني، وظهور بوادر صراعات مسلحة، ودخول البلاد في خيار الانتخابات المبكرة بديلا عن الحرب الأهلية، غير أن تصاعد معدلات التسجيل في الأيام الأخيرة يقلل من أهمية تأثير الأوضاع الأمنية.
توضح بيانات المفوضية الوطنية للانتخابات ارتفاع تسجيل الناخبين في مجلس النواب، حيث بلغ عدد المسجلين 1.509.317 ناخباً. وعلى الرغم من ارتفاعه عن عدد المسجلين لانتخابات الهيئة التأسيسية، فإنه كان أقل من المسجلين في الانتخابات التشريعية السابقة (المؤتمر الوطني)، ولعل العامل الأساسي في تفسير هذا الانخفاض يرجع إلى انصراف المكونات السياسية والاجتماعية لحسم الخلاف عن طريق الصراع المسلح في كل من طرابلس وبنغازي، حيث ظهرت تحالفات مسلحة جديدة تحت مسمى "عملية كرامة" ليبيا ثم "فجر ليبيا"، في مايو/أيار ويونيو/حزيران 2014، بالإضافة إلى شن حملة ضارية ضد الأحزاب السياسية، وقد فاقمت التوجهات الصراعية البحث عن السلاح والحرب، بحيث جرت الانتخابات تحت القصف المسلح أو التهديد به.
ومع فتح تسجيل الناخبين في 6 ديسمبر/كانون الأول 2017، استعدادا للانتخابات، وفق خريطة الأمم المتحدة، وصل عدد المسجلين، حتى 6 فبراير/شباط الجاري، إلى 2331109 ناخبين، منهم 822 ألف ناخب جديد تقريباً، وهو ما يشير إلى التفاؤل بأن الانتخابات المقبلة سوف تشكل نقطة مهمة في الخروج من الانقسام والصراع المسلح، ولعل الدلالة المهمة هنا تكمن في أن ارتفاع تسجيل الناخبين جاء في ظروفٍ مماثلةٍ لانتخابات مجلس النواب، ما يعني انتهاء أفكار التفويض الشعبي.

الأيديولوجيا للبراغماتية
كان من المفترض أن يدفع انخفاض الفروق الأيديولوجية بين سبتمبر/أيلول وفبراير/شباط باتجاه القبول بالحل السياسي، غير أن بروز نزعات أيديولوجية أخرى صار من المغذّيات الرئيسية للصراع المسلح، لعل أهمها الصراعات بين الإسلاميين، وانضواء جانب من السلفية "المدخلية" في الصراع المسلح، إلى جانب ضعف العلاقة ما بين عملية الكرامة وأنصار النظام الجماهيري.

ويقف المشهد السياسي في ليبيا أمام انقسامات سياسية كثيرة، ولا يبدو ثمة عامل حاسم، سواء في حالة الصراع المسلح أو التنافس السياسي، فقد أثبتت تجربة السلاح عدم جدواها في تحقيق مكاسب اجتماعية أو سياسية. وعلى المستوى السياسي، تتكرر إعادة إنتاج النزاع، حيث يكون من المقبول وضع شروط لتهيئة المناخ قبل الانتخابات، لكن استصحاب خلفيات الصراع وإضعاف البدائل يمكن اعتباره من العوامل التي تقوّض الثقة في العملية السياسية. وكانت هذه الحالة واضحة في صدور قانون العزل السياسي، وتتجلى في الوقت الراهن في الحرص على استبعاد بعض الشخصيات، من دون البدء في مشوار المصالحة ووقف الحرب.
وعلى الرغم من تعقيدات الأزمة السياسية، يسير "تحالف القوى الوطنية" (10 ديسمبر/كانون الأول 2017) نحو المشاركة في الانتخابات، غير أنه يرى أن ضرورة توفر شروط الانتخابات الحرة، والقبول بنتائجها، يساهمان في الانتقال الديمقراطي. ولذلك يربط المشاركة بشرطين؛ توفر البيئة الأمنية والمالية والاقتصادية من ناحية، وتعهد جميع الأطراف المسلحة والسياسية بقبول نتيجة الانتخابات. وبجانب شرطي سلامة الانتخابات، أضافت "الهيئة العليا" (12 يناير/كانون الثاني 2018) ضرورة تمثيل الأحزاب بنسبة جيدة، وهو معنى قد ينصرف للعودة إلى نظام القوائم الحزبية، كما في انتخابات المؤتمر الوطني.
يُعد القبول بنتائج الانتخابات النقطة الحرجة لدى السياسيين في ليبيا، بسبب اختلاف مفهوم القبول بهذه النتائج لدى الكيانات المختلفة. وفي هذا السياق، يذهب رئيس التحالف، محمود جبريل، إلى أن تجربة إقصائه عن تولي السلطة، بعد انتخابات المؤتمر الوطني، على الرغم من حصوله على الأكثرية، ويصف تلك الفترة بأنها انقلاب الإسلاميين على الديمقراطية، وتعطيل مؤسسات الدولة، على الرغم من أن المكونات الأخرى تمكّنت من الحصول على أغلبية الأصوات، وكانت هذه التنافسية المفتوحة الجذر الرئيسي لانكشاف المؤتمر الوطني، وتعرّضه للتهديد المباشر وانقسامه منذ بدء مناقشة العزل السياسي (إبريل/نيسان 2013)، وانتقال هذه الأزمة إلى مجلس النواب، واضطراره إلى الانعقاد في طبرق، وليس في بنغازي، حسب التعديلات الدستورية في 2014.
وفيما يتقارب "التحالف" مع الجنرال خليفة حفتر وأنصار النظام الجماهيري، تبدو تقييماته سلبيةً تجاه حكومة الوفاق، ويعتبرها فشلت في إثبات جدارتها السياسية، وصارت رهينةً للكتائب المسلحة، وبعيدة عن البرامج السياسية. غير أن النقطة الأكثر أهمية تتمثل في تصنيف سيف القذافي نتاجا للميراث السياسي لـ "الفاتح من سبتمبر"، ولا يمكنه التمتع بالحقوق السياسية بسبب خضوعه لمطالبة المحكمة الجنائية الدولية، وخضوعه للتحقيق في جرائم لا تسقط بالتقادم، وهو ما يمكن تفسيره على أن قبول جبريل بالجماهيريين كونهم ناخبين من دون رأس سياسي. ولذلك، تؤسس هذه المواقف لسياسات التحالف في الانتخابات المقبلة، حيث يتطلع إلى تكوين مظلة سياسية، تشمل الكتل الموالية للتحالف، الليبرالية والجهوية والعسكرية، باعتبارها خطوة لدخول الانتخابات على رئاسة الدولة. وهو اتجاه مخالف لتيار أنصار النظام الجماهيري، حيث يعملون، تحت مظلة "الحركة الوطنية الشعبية الليبية"، لأجل إعادة ترتيب صفوفهم. وعلى الرغم من خطابهم الحاد تجاه ثورة فبراير، صارت لديهم ميول واضحة نحو العمل السلمي، والدفع بسيف القذافي إلى المنافسة السياسية، وترويج قدرته على قيادة التيار الجماهيري. ولم تكتف "الحركة الوطنية" بالحديث عن دوره السياسي، لكن خطابها الإعلامي تبنّى حملةً لدعم التسجيل في الانتخابات. وتفيد تقديرات بأن غالبية المسجلين الجدد (822 ألفا) تأثروا بهذه الحملة التي تعتبر صندوق الاقتراع والانتخابات الحل الحاسم للمشكلة الليبية، وهو ما يعد من المؤشرات الداعمة للحل السياسي، ويطرحون أنفسهم بديلا مختلفا يساعد في تجاوز الأزمة السياسية. وعلى أية حال، يشكل موقف الجماهيريين، على الرغم من تفككهم التنظيمي، تطوراً نوعياً في المرحلة الحالية.
وعلى مستوى آخر، تتلاقى رؤية رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، مع توجهات "العدالة والبناء" بشأن الانتخابات، حيث تقاربت المفردات التي تدعم إعادة تأسيس شرعية المؤسسات والاحتكام للإرادة الشعبية. وقد قال في كلمة متلفزة، في 17 ديسمبر/كانون الأول 2017، إن الانتخابات هي الطريق الوحيد إلى بناء دولة القانون والمؤسسات والتداول السلمي على السلطة، و"وحدها ستحل مسألة الشرعية التي طال الخلاف عليها في الفترة الماضية". وفي هذا السياق، وباعتباره حزبا سياسيا، وضع "العدالة والبناء" أولوية الاستفتاء على الدستور قبل إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية (24 ديسمبر 2017)، وذلك باعتباره استحقاقا دستوريا يؤسس لمشروعية المؤسسات، ويشكل الخطوة الأولى للخروج من الحالة الانتقالية.

ويمكن تفسير ظهور بيان رئيس النواب، بعد تصريحات حفتر بانقضاء "الاتفاق السياسي" ومؤسساته، بأنه محاولة لتجنب فراغ السلطة عن طريق الانتخابات، وخضوع الجيش للسلطة المدنية. وفي ظل هذا الخلاف، ظهرت محاولات للضغط على البرلمان وحصاره، والمطالبة بتسليم السلطة للجيش.

بديل حفتر المسلح
يمكن القول إن الزخم حول مطالب إجراء الانتخابات يشكل تحدياً لخليفة حفتر، حيث يواجه خيارين؛ الاستمرار في قيادة الجيش أو الترشح للانتخابات. وقد ظهرت محاولات الخروج من هذه المعضلة، بطريقتين، الأولى كانت باللجوء إلى التفويض الشعبي، لكنها فقدت زخمها مع بعض الضغوط الدولية، وزيادة عدد المسجلين للانتخابات، واتساع القبول بإجراء استفتاء على الدستور. وتمثلت الطريقة الثانية في رفع النشاط العنفي في بنغازي، والتهديد بشن عمليات مسلحة ضد درنة. وعلى خلاف توجهات المفوضية الوطنية للانتخابات والأمم المتحدة للترتيب للانتخابات، شكّل حفتر كتيبة للتدخل السريع (قرار رقم 393)، وبغض النظر عن الجدل حول انضباط الوحدات العسكرية، فإن تشكيل وحدات جديدة يعمل باتجاه معاكس لسياسة جمع السلاح، ويساعد في عرقلة المسار السياسي.
ويمكن تفسير زيادة العنف والتحركات العسكرية في شرق ليبيا بأنها تعكس، من ناحية، قلق خليفة حفتر من دخول انتخابات تنافسية. ومن ناحية أخرى، ضعف قدرته على تقويض المؤسسات المنبثقة عن اتفاق الصخيرات، حيث ظل المجلس الرئاسي يعمل، بشكل طبيعي، ويحظى رئيسه فائز السراج بالاعتراف الدولي. هنا، يمكن القول إن الضابط في قوة حفتر، محمود الورفلي، صار مسألة حرجة لعملية الكرامة. ومن ثم، فإن تسليمه إلى الجنائية الدولية سيضعف الكيان السياسي والعسكري لخليفة حفتر. ولذلك، يبدو إجراء الانتخابات في شرق ليبيا مسألة حاسمة أمام الأمم المتحدة، للانتقال إلى مرحلة أخرى بأقل الخسائر الممكنة.
ويمكن القول إن زيادة تسجيل الناخبين، وظهور دور ملموس للأمم المتحدة، وفتح المجال أمام النخب المدنية، سياسات تعزّز الرغبة في المسار السياسي، واستعادة مؤسسية الدولة، ويمكن أن تشكل بدائل قادرة على حماية الانتقال من السلاح إلى السياسة، حيث إنه بجانب تفاعلات المكونات الرئيسية، ظهرت مكوناتٌ أخرى في الجنوب والغرب تدعم المسار السياسي، لكن نجاح هذه المرحلة يتوقف على مدى التقدم في خفض القيود على المشاركة السياسية.
غير أن المشكلة التي ترتّبت على النظام الانتخابي تمثلت في أن اعتماد النظام الانتخابي على الأغلبية النسبية، وفقاً لنظام الصوت الواحد غير المتحوّل، ساهم في إضعاف المؤسسات والأحزاب السياسية، فيما زاد تأثير العوامل الجهوية، فقد فرض النظام الانتخابي قيوداً على المؤتمر الوطني العام، تمثلت نتائجه في اتجاهين؛ اضمحلال دور الكتل السياسية وظهور الطابع الصراعي بشكلٍ أدى إلى تفكك السلطة التشريعية الانتقالية، وذلك بالإضافة إلى تزايد كراهية فكرة الحزبية. وهنا تبدو أمية النقاش حول النظام الانتخابي الأكثر ملاءمة للكشف عن الإرادة الشعبية، بحيث يحظى المشرّعون بثقة الأغلبية المطلقة.
5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .