الأردن.. عصبة المدن في مواجهة عصبة النظام

الأردن.. عصبة المدن في مواجهة عصبة النظام

12 فبراير 2018
+ الخط -
يتصاعد في الأردن اليوم مسار الاحتجاج على الإجراءات الاقتصادية التي أقرتها الحكومة أخيرا، مستعيدا مسار الاعتراض الذي شهدته البلاد إبّان الربيع العربي. ويتركز الحراك الجديد في مدن رئيسية، الكرك والسلط، بعد أن كان طرفيا قبل سنوات (ذيبان، الطفيلة وبعض القرى)، إضافة إلى أن العناصر الحراكية الجديدة محسوبة تاريخيا على مؤسسات الدولة ومعاقلها الرئيسية في مقابل الحراك الإسلامي والعشائري المتناثر عامي 2011 و2012. وتعد المدن المنتفضة معقلاً لموظفي الدولة (البيروقراط) ونخب عهد الملك حسين (1952- 1999)، حيث بقيت تلك المدن عنوان الولاء والانتماء وأساس استقرار النظام السياسي، ومركزاً للأحزاب السياسية الوطنية.
يأتي اندلاع الاحتجاجات والمظاهرات في الكرك والسلط ردا على القرارات الاقتصادية أخيرا، مع تضرّر فئات اجتماعية من السياسات الحكومات المتعاقبة، لجهة وقف تعيين موظفين جدد في السلك الحكومي الذي يشكل 40% من حجم القوى العاملة، ومساس هذه الإجراءات بالأمن المعيشي والوظيفي لهذه الشرائح العريضة.

عملياً؛ كانت المدن الرئيسية في الإردن، إربد والكرك والسلط، خارج الفعل الاحتجاجي إبّان ما سمي الحراك الشعبي، في العام 2011، حيث كانت عناوين تلك الاحتجاجات الأطراف الهامشية وبعض نشطاء العشائر والمناطق النائية وجماعة الإخوان المسلمين، غير أن 2018 يشهد انتقال الفعل الاحتجاجي إلى قلب المدن الرئيسية، مع تنامي إحساس تلك المدن بنأي النظام السياسي عنها، ونقلها خارج السلطة أو على هامشها، بعد استنبات نخب وطبقة سياسية جديدة، من دون عصبة جغرافية أو ديموغرافية، استنادا لمعيار وحيد، لاستقطاب النخب الجديدة إلى كابينة صنع القرار، وهو "الإذعان"، في مقابل مدن العصبة الديمغرافية والجغرافية التي كان عنوان استقطابها وتنخيب أبنائها "الولاء والانتماء".
تاريخياً، يشكل الخبز عنواناً مهماً في سلة الغذاء والاستقرار الأردني، وبقيت الحكومات الأردنية دوماً تؤكدُّ حرصها على عدم المساس به، حيث كان قرار رفع الدعم عن هذه السلعة في 1996 سبباً في احتجاجات شعبية، أدّت في حينها إلى تراجع الحكومة عن قرارها، ثمّ رحيلها.
اليوم يعد الاقتصاد المحرّك الأول للاحتجاجات والاضطرابات في البلاد، من دون أن تصل إلى ثورة، حيث شكلت "هبة نيسان" في 1989 أبرز الحركات الاحتجاجية في تاريخ الأردن الحديث، والتي فتحت الطريق أمام التحول الديمقراطي الكبير. وقد رافقت تلك الهبة عوامل موضوعية داخلية، لعل أهمها انهيار سعر صرف الدينار، وتداعيات انتهاء الحرب العراقية الإيرانية على قطاع النقل البري.
تلك الهبة، وبفعل عوامل خارجية وأخرى بفعل القصور الذاتي، أوصلت البلاد إلى تسوية سياسية بين مؤسسات الدولة والقصر، كان عنوانها الكبير "الميثاق الوطني"، إلا أنّ الميثاق الذي تم خلاله حسم شرعية الملك، وإقرار كل القوى السياسية بتلك الشرعية لم تؤسس لانتقال ديمقراطي يراكم على منجز العام 1989.
لاحقاً، واجه عبد الكريم الكباريتي احتجاجات الخبز في 1996 وهو القادم إلى رئاسة الحكومة على خلفية التموضع الأردني في فك التحالف مع عراق صدام حسين المحاصر، والانفتاح على الخليج، وتجذير نهج الخصخصة في مواجهة البيروقراطية التقليدية، فكانت هبّة الخبز سبباً في تراجع الحكومة عن قرارتها تلك ورحيلها.
تاريخياً، تمكّنت معاقل البيروقراطية الأردنية، وخصوصا المدن المركزية في البلاد، من هزيمة رؤساء الحكومات الذي يأتون من خارج عصبتها، زيد الرفاعي 1989، عبد الكريم الكباريتي 1996، سمير الرفاعي 2011. واليوم هاني الملقي رجل بلا عصبة، وبلا مشروع سياسي واضح، وهو يقع على تقاطع غضب المدن من انزياح النظام السياسي عنها، وجفاف ضرع المساعدات التي كانت توفر للنظام فرصة استقطابها، إضافة إلى عجز النظام السياسي عن المضي في إيجاد واقع سياسي واقتصادي، ينسجم مع حجم المتغيرات الكبرى التي تعصف بالبلاد والإقليم. وسيكون العام الحالي فاصلاً في تاريخ الأردن الحديث، لجهة شكل النظام السياسي وخياراته الاقتصادية، ورد الفعل الشعبي على هذه الخيارات، وخصوصاً في المعاقل التي يتم تجاوزها تجاه الصيغ البديلة.

لقد فتح حراك 2011 السؤال الكبير بشأن حصانة النظام السياسي من النقد، وكشف أيضا عجز القوى السياسية، وخصوصا جماعة الإخوان المسلمين، عن توظيف موجة الربيع العربي حينها، غير أن حراك 2018 يتجاوز هذا السؤال إلى مسار محاكمة نهج الحكم الاقتصادي والسياسي من قواعده التاريخية المتضرّرة من مسار التغيير الذي يجري اشتقاقه على النقيض من مصالحها.
يتمثل المتغير الجوهري أردنيا اليوم في أن السلطة التي كانت نتاج تحالف وتشكلات طبقية واقتصادية، ومجموعة من المصالح والامتيازات، تتعرّض اليوم لاهتزازات عميقة، أساسها انكشاف عجز النظام السياسي، في الحفاظ على مصالح الشرائح الاجتماعية التي تعد العمود الفقري لشرعيته وبقائه، وسط تنامي حالة وعي بشأن مدى نجاعة إدارة الموارد وحاجات المجتمع الأساسية وأولوياته اقتصاديا، وفي التعليم والصحة والاتصالات والسلع والخدمات.
78D57413-9DA6-427B-B957-612337B4E39B
78D57413-9DA6-427B-B957-612337B4E39B
منصور المعلا

كاتب ومحلل سياسي اردني، بكالوريوس في العلوم السياسية

منصور المعلا