موجز عن زغلول الدامور

موجز عن زغلول الدامور

02 فبراير 2018
+ الخط -
لا أتذكّر في صيف أي عامٍ في الثمانينيات، كانت تلك السهرية التي استمعنا فيها، نحن جمعٌ من الأصدقاء، إلى زغلول الدامور وجوقته، في مسرح أرتيمس في مدينة جرش الأثرية، في واحدٍ من مواسم مهرجانها، إبّان عزّه. ولكن لا أنسى أننا بالكاد كنا قد سمعنا باسم هذا الزجّال اللبناني، الشهير جدا في بلده، فيما المعرفة به غير كثيرةٍ لدى غير اللبنانيين، وإنْ يشتهر اسمُه ربما لدى جيلين أسبق من جيل صاحب هذه الكلمات، سيما لدى من كانوا يتردّدون على بيروت الستينيات والسبعينيات. .. أشاعت زجلياته الشعبية، وتطريباتُه الخفيفة، بصوته العالي (غير القوي بالضرورة) بهجةً كثيرةً في الجمهور الذي اقتعد درجات المسرح الروماني، وأنصت بفرحٍ إلى "الزغلول"، ولمن معه في الجوقة. كانوا يتناوبون على الترنّم بمقاطع ليست قصيرة، ويردّدون معا قفلاتٍ ومفتتحاتٍ، مع دقٍّ خفيفٍ على دفوفٍ صغيرة تُساعد رنّاتُ خلاخيل فيها على تصعيد التنغيم، ومع تقطيعاتٍ من "الأوف" وتنويعاتها. .. لعلهم كان خمسةً أو ستة. يجلسون إلى الطاولة العامرة بالفاكهة، ويبثّون علينا، بالمحكيّة اللبنانية الذائعة، أشعارا في الزهو بلبنان، وبالضيعة و"كرْماتها"، وعن النساء، وعن الشهامة والكرامة. وعن موضوعاتٍ أخرى تتوالى الأزجال عنها باسترسال. مثلا، عن فرادتهم هم أنفسهم شُعّارا (شعراء)، فكل واحدٍ منهم كروانٌ وقيثارةٌ وبلبلٌ وشحرورٌ وعندليب، على ما يوزّعون على أنفسهم من صفاتٍ وألقاب. يتباسطون في أي شأنٍ يتأتّى لهم أن يقولوا فيه ما يقولون، على أن تزبط معه القوافي والإيقاعات. زغلول الدامور النجم بينهم، له الحصّة الأكبر مما نسمع، يُنشد بانتشاءٍ وخُيلاء، منشرحٌ ومزاجه عالٍ، طلقٌ، رائقٌ وحميم.

لولا وفاتُه، السبت الماضي عن 92 عاما، لما استدعت الصحافة من الأرشيف اسمَه غير الذائع، جوزف الهاشم. وفي هذا الأرشيف مسيرةٌ دؤوبةٌ مع الزّجل. كان منذورا له، فأبدع وجدّد فيه، على ما كتب عارفون ومتابعون، باعتبار هذا الشعر الشفوي، الشعبي، فناً له فرسانُه. فصار زغلول الدامور، بلقبه هذا الذي تسمّى به مبكّرا، سندباد الزجل، وأيقونة الزجل، وملك الزجل، وثمّة ألقابٌ مثيلةٌ أخرى تتالت عليه، منذ انقطع لهذا الفن، لمّا شكّل جوقته في 1944 (يا لها من سنة بعيدة)، فصار من عناوين ظاهرةٍ في لبنان، في المشهد العريض للثقافة الشعبية لهذا البلد، ولفلكلورياته. وربما كانت النمطية الواحدة، والإيقاعاتُ المتشابهةُ القليلة، من أسباب عدم نيْل زغلول الدامور الشهرة الواسعة التي تحققت، عربيا وعالميا، لفرق غنائيةٍ وراقصةٍ لبنانيةٍ بديعة، وإنْ في البال أن وديع الصافي ونصري شمس الدين وغيرهما غنّوا زجلياتٍ له.
ليس الزجل فنا لبنانيا خالصا. هو حاضر، باسمه هذا وأسماء أخرى كثيرة غيرها، في كل بلاد الشام، وفي بلاد المغرب العربي. هو فن قديم، يأخذه دارسون إلى الأندلس، غير أن اللبنانيين وحدهم (ربما) من انفردوا بالحفاظ على اسم هذا الشعر زجلا، فيما أعطاه غيرُهم أسماء أخرى، مع كل تنويعاتٍ استجدّت عليه. وفي سيرة زغلول الدامور الذي أوصل الزجل اللبناني إلى غير عشّاقه، على ما قال محبٌّ له محق، أن جيله، وهو الثاني بعد الزّجالين المبكرين، طوّر سردية الزجل إلى اثني عشر سطرا، بعد أن كانت اثنين. ولا أعرف إذا ما كانت "الرّدّيات" اختراعا زغلوليا، أم أنها سابقةٌ عليه، وهي المناظراتُ التي تتبارز فيها جوقتان بالزجل في غزلياتٍ أو هجائياتٍ أو وطنياتٍ (أو عنترياتٍ وما أكثرها) أو في أي أمر، تردُّ كل منهما على الأخرى. وهذا الروائي اللبناني، حسن داود، يكتب إن المناظرة بين زغلول الدامور (وجوقته) وموسى زغيب وجوقته في 1971 كانت "تاريخية". وبهيجٌ أن يفتش واحدنا في "يوتيوب" عن "وقائع" مثل هذه، غالبا من محفوظات التلفزيون اللبناني.
غنيةٌ حياة هذا الرجل الذي كان زجّالا فحسب، لا شيء عنه في غير كارِهِ هذا. في أرشيفه أن له عدة كتب أنجزها، عنوان أحدها "خمسون سنة مع الشعر الزجلي". يحتاج حفظ هذا الأرشيف وتنظيمه ولملمته (ثمّة شيء منه في التلفزيون الأردني من مهرجان جرش) إلى جهدٍ مؤسّسيٍّ ربما. ولكن لبنان الذي قدّامنا ليس في هذا الوارد، يُكتفى فيه بمرثياتٍ عجولةٍ للاسم البديع في ذاكرة اللبنانيين الواحدة، زغلول الدامور، لتتصدّر ركاكة زجليات السياسيين بينهم راهنَهم المتعب، أعانهم الله.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.