أكتاف دافئة في الرباط

أكتاف دافئة في الرباط

02 فبراير 2018

الوزيرة فاطنة لكيحل مع مرشح في العرائش (يوتيوب)

+ الخط -
صعدت الوزيرة المغربية إلى منصة اللقاء الانتخابي ممسكة بيد المرشح. أمامها بالتأكيد يحتشد في هواء طلق مواطنون تصل إلينا أصواتهم من دون أن نتبين حجمهم في مقطع التسجيل الرديء لفيديو التجمع المنتشر في وسائط التواصل الاجتماعي.
تبسط الوزيرة بلغةٍ قريبةٍ من الناس حججها: يجب التصويت على المرشح الفلاني لأن "كتافو سخان فالرباط" (أكتافه دافئة في العاصمة)، فهو يستند إلى أعمدة صلبة هناك.
يمسك رئيس الحكومة بزمام خطابه الانتخابي. يبدو متأثرا بتفاعل الجماهير المنصتة إليه. يوزع قفشاته الناجحة بين جمله الصغيرة النفاذة. يصل إلى ذروة الانسجام والتماهي مع الروح التي يشعر أنها باتت تسكن هذا اللقاء. يقدم ما يشبه الإشراقة: "أريد أن أقول لكم شيئا حول معنى السياسة والانتخابات" الذين يحكمون يوجدون طبعا فوق. هناك نافذةٌ تفتح كل خمس سنوات. الذين يختارهم الشعب يلتقون بهؤلاء الذين يوجدون فوق. لكي يوصلوا رأيه، لكي يدافعوا عنه، لكي يصدّوا عنه الضرر ما أمكن. تلك هي الحكاية".
بين المشهدين مسافة بالكاد تجاوزت السنة بقليل. يعود الأول إلى أقل من أسبوعين بمناسبة انتخابات تشريعية جزئية. يعود الثاني إلى الانتخابات العامة في أكتوبر/ تشرين الأول 2016. وكلاهما ارتبطا بالمدينة المغربية نفسها، العرائش، وفي العمق يفصل بينهما الكثير والكثير.
يريد الخطاب الأول الاستقواء بالسلطة وإعادة إنتاج خطابها. استثمار العلاقات مع "الفوق" مبررا لكسب شرعية جديدة. إعلان الانتماء لشبكات أقوياء العاصمة دليلا على النجاح السياسي.
يريد الخطاب الثاني الانتصار لشرعية صاعدة من "تحت". التأكيد على رضا الناخبين وإرادة الشعب مبرّرا للانتداب الانتخابي. توضيح مهمة "ممثلي" الشعب في سياق سياسي خاص، مهمة دفاعية ووظيفة للمقاومة المدنية.

قد لا يحتمل المقطعان المقدمان مبالغةً كثيرة في إنتاج التحاليل وتركيب الخلاصات، لكننا نزعم أنهما يعبران، في الواقع، عن تصورين مختلفين للسياسة، وظلا حاضرين منذ عقود، على الرغم من اختلاف تعبيراتهما على مر الحقب والمراحل.
طوال السبعينيات وإلى نهاية التسعينيات في المغرب، شكلت ثنائية أحزاب الإدارة وأحزاب الحركة الوطنية الصورة النموذجية لتجسيد التقاطع بين هذين التصورين. كانت التشكيلات الأولى ذات الأصل السلطوي تدافع عن الدولة بوصفها حقيقة سياسية وحيدة، فيما كانت التشكيلات الثانية المنغرسة في التربة الاجتماعية تدافع عن السياسة، باعتبارها مجالا للتفاوض بين المجتمع والدولة.
كانت أحزاب الإدارة مجرد استعارةٍ تريد تغطية واقع الاستبداد، تبحث عن منحه وجها "تنافسيا". أما الأحزاب الوطنية الديمقراطية فكانت مقتنعةً بأن جرعاتٍ متدرجةً من "السياسة" قد تصبح ترياقا حقيقيا ضد السلطوية. لذلك غامرت بتحويل الهامش المحدود إلى فضاء للتعبئة والتراكم. ولذلك، شكلت أحزاب الإدارة في المغرب امتدادا للدولة داخل المجتمع، يحمل رغبة معلنة في قتل السياسة تشويشا على اشتغال الآلة السلطوية. وشكلت الأحزاب الوطنية امتدادا للمجتمع داخل الدولة، يحمل رغبة في الانتصار للسياسة، باعتبارها بديلا عن الرأي الوحيد وعنوانا للتعدد.
ضمن هذه المعادلة، كانت رهانات العملية الانتخابية متقاطعة تماما: الأحزاب الإدارية تخوضها باسم الدولة، باسم الشرعية المستمدة من "فوق". تفعل ذلك للتحكم في منسوب الهواء الصاعد من أسفل، ولإعادة تدوير النخب الحائزة، أساسا، على الرضا المسبق للسلطة، في اتجاه معكوس لمنحنى الشرعية الديمقراطية: من الفوق إلى الأسفل. أما القوى الديمقراطية فتخوض نزالها الانتخابي باسم المجتمع، ليس بالضرورة ضد الدولة، ولكن أساسا دفاعا عن الشرعية الصاعدة من الأسفل. لم تكن، في الغالب، مهووسةً بهاجس طلائعي، يجعلها تنوب عن كل المجتمع، لكنها كانت تنجح في أن تحول الانتخابات إلى لحظةٍ يتمرّن خلالها المجتمع على الدفاع عن نفسه، وتمثل مصالحه.
مرت سنوات طويلة على هذه الخطاطة، تحولت خلالها استراتيجيات ما كانت تعرف بالأحزاب الوطنية الديمقراطية، وباتت أقرب ما تكون، في أدائها الانتخابي، إلى أحزاب الإدارة، سواء من خلال حملاتٍ بلا مضمون سياسي، أو من خلال مرشحين بلا هوية نضالية. وحدها السلطة لم تتحول عن خيارها القديم/ الجديد: حزب الدولة.
لكن هذا النفس النضالي الذي يعرف كيف يحوّل السياسة إلى تدافع مجتمعي ومقاومة مدنية سيعود بقوة خلال اقتراعي 2015 و2016، من خلال الأداء الانتخابي للأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية، عبد الإله بنكيران.
اليوم، بعد أن وقع ما وقع من انقلاباتٍ مكشوفة على الإرادة الشعبية وتعبيراتها السياسية والانتخابية، يبدو أن المعركة الرمزية بين "التحت" و"الفوق" آلت إلى من يملك أكتافا دافئة في العاصمة.
2243D0A1-6764-45AF-AEDC-DC5368AE3155
حسن طارق

كاتب وباحث مغربي