في معنى الكرامة

في معنى الكرامة

10 ديسمبر 2018
+ الخط -
يبدأ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي تصادف اليوم (العاشر من ديسمبر/ كانون الأول) ذكرى إشهاره في العام 1948، بمادته الأولى التي تنص على: "يولد جميع الناس أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضًا بروح الإخاء". وبناء عليه، ترى الجمعية العامة للأمم المتحدة في هذا الإعلان أنه "المستوى المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كل الشعوب والأمم، حتى يسعى كل فرد وهيئة في المجتمع، واضعين على الدوام هذا الإعلان نصب أعينهم، إلى توطيد احترام هذه الحقوق والحريات عن طريق التعليم والتربية واتخاذ إجراءات مضطردة، قومية وعالمية، لضمان الاعتراف بها ومراعاتها بصورة عالمية فعالة بين الدول الأعضاء ذاتها، وشعوب البقاع الخاضعة لسلطانها"، فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان ملهم للدساتير، لكنه ليس ملزمًا في تطبيقها، حتى لو كانت الدولة قد وقعت على هذا الميثاق، والأمثلة تكاد لا تعد ولا تحصى".
لو طرحنا سؤال ما هي الكرامة، لوقفت الغالبية مرتبكةً، في رد فعل أولي تجاه السؤال، بينما تسعفهم الفكرة التي يستنبطونها من صدورهم وعقولهم الباطنة عن معنى الكرامة. لكن جميع الناس يشعرون بكرامتهم، وتؤلمهم مثل أي جرحٍ إذا ما انتهكت أو تعرّضت للأذى، وإذا بحثنا عن معناها في المعاجم، فإنها تترفع عن التوصيف الدقيق الذي يفيها حقها، فالكرامة أكبر من إحاطة اللغة والفنون والعلوم والفلسفة. تقول المعاجم في تعريفها: احترام المرء ذاته، وهو شعور بالشّرف والقيمة الشخصيّة يجعله يتأثّر ويتألّم إذا ما انتقص قَدْره، فكيف هو قدر الإنسان، كيف يعيه، وكيف يعي ذاته ليحترمها؟
لقد خلق الإنسان كامل الحقوق، كما أي مخلوق آخر، طالما أن حياته ليست منّة من أحد، فهي حقه الأول الذي من أجله تتالت الحقوق. وطالما أن لكل المخلوقات بداية واحدة هي "الحياة" فإن المساواة كمفهوم تنبثق من هنا.
معظم الدساتير التي تضبط إدارة الحياة لدى الشعوب، خصوصا في الدول الديموقراطية، فإن الكرامة هي المفتاح، حماية حق الكرامة تضمنه الدساتير في مراتبها العليا، من ناحية قدرتها على منح الأفراد الذين ينضوون تحت خيمتها الإحساس بالأمان والثقة بالنفس، ليس هذا فحسب، بل تمدّه بالقدرة على وعي الذات، وأن يعرف ما له وما عليه ضمن هذا العقد المبرم بينه وبين الدولة، كي يعيش في مجتمع أو يكون له وطن.
تؤكد هذه الحقوق وغيرها المادة الثانية في الميثاق عليها: لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي سياسيًّا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أيِّ وضع آخر. وفضلاً عن ذلك لا يجوز التمييزُ علي أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص، سواء أكان مستقلاًّ أو موضوعًا تحت الوصاية أو غير متمتِّع بالحكم الذاتي أم خاضعًا لأيِّ قيد آخر على سيادته.

جاء الإعلان بعد أن دفع العالم فاتورة باهظة في حربين عالميتين خلال النصف الأول من القرن العشرين، لكن الشعوب كانت قد سبقت الإعلان بكثير في ثوراتها من أجل هذه الحقوق، وإذا كانت الثورة الفرنسية رفعت شعار: حرية مساواة إخاء، فإنها أسست قاعدة استلهمت منها الثورات التي تلت. كما أنها تركت نتائج كبيرة أثرت في الدول والشعوب الأوروبية، وأدت إلى تغيير كبير خلال قرنين بعدها. لقد انتفض الشعب على النظام الجائر لحكومته وأوضاعه السيئة، وليس الغرض من هذا المقال الإضاءة على الثورة الفرنسية وغيرها، أو نقدها، لكن ما يحصل في فرنسا حاليًا، وما حصل في بلدان ما سمي الربيع العربي، وما حصل في إيران منذ عشر سنوات وفي العام الماضي، وما حصل ويمكن أن يحصل في أي منطقة، هو تعبير من طبيعة بشرية إنسانية، عن حق الكرامة قبل كل شيء، فرغيف الخبز كرامة، وحق المسكن كرامة، والتعليم والصحة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية كرامة، وحق التعبير والمعتقد وحرية الضمير كرامة، وحق التصويت والتظاهر كرامة، والحماية من الاعتقال التعسفي والتعذيب كرامة، والتوزيع العادل للثروات كرامة، وغيرها حقوق كثيرة تزداد قائمتها مع تطور الحياة البشرية، وظهور حاجات أخرى يفرضها هذا التطور.
لكل شعبٍ من الشعوب التي انتفضت كرامته التي كانت تنتهك وتجرح، فمن له الحق في أن يحرمه كرامته؟ دائمًا هناك شرارة صغيرة تقدح في هشيم الأرواح المعطوبة المعذبة، تشعل النار في النفوس المظلومة، هذه الشرارة الصغيرة التي تشبه زفيرًا جماعيًا ينطلق من صدور ضاقت، وأوشكت تختنق، تبدأ بمطلب صغير، لكن الواقع أمرّ وأقسى، مع هذا الزفير تبدأ تداعيات اللاوعي، وتقف جيشًا من المظلوميات والانتهاكات أمام الوعي، عند هذه اللحظة بالذات تدرك الشعوب ذاتها.
لقد تغوّل رأس المال والاحتكارات العابرة للحدود والأديان والطوائف والقوميات والجنسيات، في حياة البشر، إن هؤلاء الجبابرة الذين يتحكّمون في حياة البشر ويرسمون مستقبل العالم هم من ينتهكون كرامات الناس، وعلى شاكلته جبابرة أصغر تتحكّم في مصير الشعوب الأخرى المستضعفة، وتدور في فلك تلك القوى الجبارة.

لا يمكن أن تعيش الشعوب الحية بكرامة منتهكة، لذلك تنفجر عند لحظة ما، تنفجر لتقول الكلمة الأولى، قد يكون الطلب صغيرًا وأقلّ أهمية من غيره، لكن عند تلك الومضة الساطعة يبدأ وعي الذات وإدراك الكرامة، لكن هذه الحركات العفوية التي لا سقف يحميها، ولا قيادة تنظمها، تكثر الأطراف التي ستنقض عليها وتجرّها إلى مسارات أخرى، بعيدًا عن مطالبها الحقة، تجرها إلى ساحات الصراع السياسي والاصطفاف والأجندات، تنزلق نحو شعبويةٍ تهجم بقوة إن كانت لليمين أو اليسار. لكن لا بد من الوقوف عند نقطةٍ مفصلية، وهي أن الثورات لا تنفجر في واقع ديموقراطي وبلاد فيها حريات، بل هي انتفاضات ضد سياسات معينة تؤثر في الواقع الاجتماعي، فلا يمكن أن نغفل أن فرنسا بلد ديموقراطي، وللشعب تقاليد في ممارستها، فإذا كانت الأحزاب والنقابات قد تلكأت، أو أخفقت في بعض المراحل، أو حتى ترهلت، فإنها لا تصل إلى مرحلة العجز التام، من المتوقع أن تستعيد مكانتها ودورها في استيعاب الحركات الاحتجاجية، وتنظيم الناس ومعرفة طلباتهم ومناقشتها مع الحكومة، فإذا فشلت الحكومة في التعاطي مع هذه الاحتجاجات، وتأمين مطالب الناس وردم الهوة الاجتماعية، فإن هذه الحكومة ستسقط، وقد تستقيل من تلقاء نفسها، هذا ما يفرضه منطق الاستقراء، استقراء تجارب التاريخ. كما لا يمكن للحكومة أن تستعمل العنف بأقصى درجاته، مثلما حصل مع شعوبنا العربية التي انتفضت، خصوصا الشعب السوري التي سميت انتفاضته ثورة الكرامة، كرامته التي خرج بسلمية لأجلها، فقوبل بالرصاص، وركبت أحلامه كل قوى التطرّف، وبدّدته الأطراف صاحبة المصالح، وحرفت حراكه عن سلميته وعن أهدافه.
هذه هي الكرامة، إنها كل تلك الحقوق الإنسانية عندما تنتهك.