دول كبيرة في حقائب صغيرة

دول كبيرة في حقائب صغيرة

09 ديسمبر 2018

ماثيو هيدجز وتيسير النجار

+ الخط -
أنْ تحمل دولتك في حقيبتك، فذلك يعني أنك المسافر البريطاني إلى الإمارات ماثيو هيدجز. لكن أن تحمل حقيبتك فارغة، فذلك يعني أنك المسافر الأردني إلى الإمارات تيسير النجار. وشتّان بين دولتين، الأولى تسافر معك، والثانية تأنف حتى أن توصلك إلى المطار.
فرق شاسع بين أن تهبّ دولة بأكملها، من حاكمها إلى محكومها، مرورًا بسائر مؤسّساتها الرسمية والشعبية، للدفاع عن مواطنٍ مغترب مسجون يحمل جنسيتها، ودولة تذوب كالملح، إذا تعرّض مواطن تابع لها لكربة ما، في بلاد الغربة.
في الأولى، تغدو الدولة مواطنًا واحدًا بحجم الدولة، وتنفلت من حدودها الجغرافية، لتسافر صوب مواطنها المنكوب، وتشاطره زنزانة السجن، إذا كان مسجونًا، وتشاركه الوقوف أمام القضاء، ومنصّات المحاكم، وتنافح عنه في وجه كل من يحاول الانتقاص من حقوقه، وتتداعى له "بالسهر والحمّى"، لأنه جزءٌ عضويٌّ منها، لا مجرد فرد أعزل غريب على موائد اللئام، وإن أخفق هذا وذاك في فكّ الكربة، فلا مانع لديها من أن تعلن حالة الطوارئ، وتستنفر وسائل ضغطها كلها، بما فيها قواها الاقتصادية، والعسكرية إن لزم الأمر، لحسم الموقف. وعندها يشعر المواطن المكروب بأنه لم يغادر بلده ألبتة، فإن ابتعد عن وطنه، فإن وطنه لا يبتعد عنه، بل يركض خلفه في الملمّات والمصائب، ويرافقه في كل محطات اغترابه.
وفي الثانية، في الدولة التي تواري وجهها أمام مواطنها المكروب، حتى قبل غربته، لأن غربته ذاتها ما كانت، أصلًا، غير فرار من بلد سدّ أمامه كل منافذ الأحلام والطموحات، بفضل أجهزته البيروقراطية، وانعدام الفرص، وجموع العاطلين عن العمل، فهي الدولة، ذاتها، التي تتوارى، أيضًا، في محنته، لتسدّ عليه كل المنافذ التي يمكن أن يتسلّل منها أنينه في بلاد الاغتراب، فتسارع إلى الانكماش داخل حدودها، وتتملّص من سائر مسؤولياتها؛ لتفاقم من غربة مواطنها المنكوب، فتغدو غربتين: غربتي الجغرافيا والخذلان الوطني، وعندها قد يُصاب المواطن المنكوب بتشكّك في ما إذا كانت له دولة، أصلًا، قبل اغترابه.
على هذا الغرار، خرج البريطاني هيدجز من سجنه الإماراتيّ مرفوع الهامة؛ لأن دولته بكاملها غضبت له "غضبة بريطانية"، لا "مضريّة"، كما يزعم العرب الذين سقط الغضب من مكوّناتهم الجسدية والروحية، منذ أصبح المواطن ذاته هلامًا قابلًا للمحو والطمس في أي لحظةٍ تشاؤها أجهزة السلطة.
وعلى هذا الغرار، كذلك، تصرّ دولةٌ مثل إيطاليا، على إبقاء ملف مواطنها المغدور في مصر، جوليو ريجيني، مفتوحًا؛ لأنها لم تقتنع بكل محاضر التحقيق التي أرسلتها حكومة عبد الفتاح السيسي بشأن الجريمة. ولن يهدأ لها بال حتى تتكشّف الملابسات الحقيقية لهذه المجزرة بحق طالبٍ، كل ذنبه أنه سافر إلى بلد عربيّ ليدرس اقتصادها، فوجد نفسه "فائض قيمة"، وجثةً هامدة، على أيدي المخابرات المصرية، أو جثة "غير هامدة" في بلده بفضل مخابرات وطنه، التي لم تعمل يومًا، إلا لخدمة المواطن لا سحقه.
في المقابل، طمست قضية الأردني، تيسير النجار، في سجون الإمارات طوال ثلاثة أعوام، بجريمة اقتراف تدوينةٍ تنتقد مواقف دولتين من العدوان الصهيوني على غزة، ولم تبذل حكومة بلاده أي مسعىً جديّ لإطلاق سراحه، اللهم باستثناء ما كان يصدر عنها من تصريحات مائعة، من قبيل "الحكومة تتابع.."، وهي متابعةٌ كانت مفتوحة النهاية بالطبع، حتى جاء الفرج، لا من خلال الحكومة، بل بفضل البريطانيّ هيدجز ذاته، بعد أن حاولت الإمارات المواربة على رضوخها للتهديدات البريطانية، بتعميم العفو ليشمل سجناء آخرين، منهم تيسير النجار، كما سرّبت الأنباء، فجاء الإفراج بمثابة "فضلة حسنة" من أفضال الموقف البريطاني الصلب، لا من فضل حكومة بلاده.
لنعترف، إذن، أننا لم نزل محض "حشرات" في أوطاننا وعيون مسؤولينا، بلا وزن ولا قيمة، وبأن من كان صغيرًا في وطنه لن يكون كبيرًا في أوطان الآخرين.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.