السترات الصفراء.. شرعية الشارع والديموقراطية الهرمة

السترات الصفراء.. شرعية الشارع والديموقراطية الهرمة

09 ديسمبر 2018
+ الخط -
قد تطوي التحركات الاحتجاجية في فرنسا، وتحديدا في باريس، أسبوعها الرابع في ظل تعبئةٍ متواصلة، ونشطة، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ما زالت على أشدّها في مواقع التواصل الاجتماعي، على الرغم من إجراءات التهدئة التي أعلنها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بعد عودة مستعجلة من قمة دول مجموعة العشرين في الأرجنتين. وهي تحركاتٌ لم تخل من أعمال عنف وشغب، جاءت على ممتلكاتٍ عامة وخاصة عديدة، ردّت عليها قوات الأمن الفرنسية بشكل عنيف، خلنا أننا لا نراه إلا في بلد من العالم الثالث، إلا أن هذه القوات أجازت لنفسها استعمال القوة بشكل مبالغ أحيانا، اعتبره نشطاء حقوقيون وسياسيون مخالفا للمبادئ والمعايير الدولية ولتقاليد عريقة عرفتها الديموقراطية الفرنسية.
ليست هذه المرة الأولى التي تندلع فيها مثل هذه الأحداث، فقد عرفت فرنسا منذ الستينيات جملة من الأحداث، فاقت عمقا وصيتا وأشكالا ما يحدث حاليا، وكان لها الأثر العميق في بنية الثقافة السياسية التي غيرت المؤسسات السياسية وجملة الممارسات ذات الصلة. كانت ثورة الشباب، في مارس/ آذار العام 1968، التعبير الأبرز التي شكلت قطيعةً مع ثقافة سياسية بطريركية زعاماتية، حين دفعت محرّر فرنسا وزعيمها، شارل ديغول، والذي كاد يتأسطر، إلى مغادرة المشهد السياسي مذموما مدحورا. كانت هذه الثورة ذات هوىً يساري حالم مشوب بنزعة وجودية. شارك فيها مثقفون ومفكرون كبار، منهم سارتر ورفيقته سيمون دو بوفوار وغيرهما، وسنعرف منهم لاحقا المختص في الميديولوجيا حاليا ريجيس دوبريه.

بعد ذلك، انتشرت حركات احتجاجية ذات طابع فئوي، ترفع مطالب قطاعية أو عامة، فهي شبابية، أو نسوية، أو بيئية، أو مناهضة للعنصرية، يقف وراءها عادة نسيج جمعياتي قوي، ومنافذ إعلامية تقليدية كانت قادرة على التعبئة، وبعض الشخصيات الكاريزمية التي شكلت أنويةً صلبة لتلك التحركات، وأحيانا الناطقون الرسميون باسمها، نستحضر منها شخصيات مثيرة، مثل الناشط جوزي بوفي. ولكن تلك التحركات تراجعت، لأسباب عديدة، منها انفجار الفضاء العام وتنامي المطلبية الافتراضية. ولعل في تنظيرات عالم الاجتماع الفرنسي، آلان توران، عن تراجع الحركات الاجتماعية واحتمال أفولها، تنبيها إلى ما يمكن أن يطرأ على ملامحها وأساليبها. وقد عرفت باريس، في التسعينيات تحديدا، حملة من أعمال العنف الحضري القادم تحديدا من الضواحي الشعبية والأحياء المهمشة التي شكلت لعقود طويلة ما يشبه معازل للجاليات المهاجرة، وتحديدا المغاربة منهم. تحرك العنف أهوج، وكان تعبيرا عن مشاعر حرمان وإحباطٍ يعجز هؤلاء عن بنائها في أطروحات أو شعارات عميقة غالبا، ولذلك توسلوا العنف.
وعادت التحرّكات الاجتماعية خلال السنوات الأخيرة في تزامن مع الثورات العربية. وشهدت فرنسا والولايات المتحدة الأميركية وإسبانيا أشكالا شتى من احتلال الشوارع من أجل الكرامة تحديدا. وفي هذا السياق، تطرح تحرّكات السترات الصفراء، بقطع النظر عن أسبابها المباشرة، أي رفع أسعار المحروقات، جملة من الأسئلة، إذ يبدو أن الثورات الملونة لم تتوقف في الدول الغربية، وهي الثورات التي اختار فيها المحتجون ألوانا للتعبير عن تحرّكاتهم بعيدا عن صرامة الأيديولوجيا، إذ ثمّة مسحة جمالية، يرغب بعضهم في إضفائها على تحرّكاتهم، تجاوزا لوقار الزعامات وإلهامها.
ومع ذلك، يبدو الأمر كأنه منضو مجددا تحت لافتاتٍ عديدة، كما أشرنا، لعل أبرزها الكرامة ورفض الخنوع، خصوصا الصادر عن مخلفات الرأسمالية المتوحشة، وتحديدا آثارها السيئة على مستوى العيش وحياة الناس، فجل التحركات الاجتماعية قائمة على المشترك المواطني الجامع، أي تردّي أسلوب العيش.

تعدّدت السياسات، وجرّب الناس كل ألوان الطيف السياسي تقريبا في العقود الأخيرة، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ولكن الأوضاع ظلت تقريبا تراوح مكانها، ولم يشعر الناس بقلة حقيقية. يبدو أن السياسات ظلت ترواح مكانها، والبرامج الانتخابية ووعودها ظلت فقط صالحة للتعبئة، وسرعان ما يتم التخلص منها، والتنكّر لها، حال مباشرة الحكم والاصطدام بإكراهاته. فهل تهرمت وشاخت المؤسسات الديموقراطية التي يفترض أنها أفرزت أولئك الحاكمين ومدّتهم بشرعية ومشروعية؟ كيف تعجز تلك المؤسسات عن قراءة حدوس الشارع ونبضه، حتى تتجنب تلك الصدامات العنيفة التي تضاعف كل مرة الخسائر، وتضعف هيبة الدولة، وتنمّي مشاعر القرف من النخب السياسية، فتضعف نسب المشاركة السياسية في مجتمعاتٍ، يفترض أن تكون قادرةً بما تمتلك من شركات سبر الآراء وبيوت الخبرة أن تتوقع ردود الأفعال تلك، حتى لا تضطر الحكومات صاغرةً للاستجابة لمطالب تلك التحرّكات؟
أسئلةُ تحاول حاليا النخب السياسية والفكرية الإجابة عنها؟ ثمّة من يقترح إصلاحا بالديموقراطية، بضخّها بأشكال حية مما يسميها بعضهم الديموقراطية المباشرة، أو التشاركية، ولكن تظل أقرب إلى الشعارات منها إلى الأطروحات المتينة القابلة للتجسيد.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.