علاقات نووية متوسّطة المدى

علاقات نووية متوسّطة المدى

09 ديسمبر 2018
+ الخط -
في زحمة اللقاءات السوفييتية الأميركية في نهاية الثمانينيات، بينما كان العهد الشيوعي ينازع، وقف الرئيس الأميركي، رونالد ريغان، على بوابة منزل ريفي في ريكيافيك في آيسلندا قبيل دخوله لمناقشة جديدة حول الأسلحة النووية في العالم مع الرئيس السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، وأمامه حشد من الصحافيين في طقس آيسلندا المتجمد. سأله أحدهم: ما هو أول ما ستتم مناقشته مع غورباتشوف؟ فأجاب ريغان مبتسماً: سنناقش الأحوال الجوية. ثم غاب داخل المنزل الريفي الذي كان غورباتشوف دخله مسبقاً، واستقر براحةٍ أمام المدفأة الكبيرة مستعداً لمناقشة حامية حول مناخ آيسلندا!
تعدّدت لقاءات الرجلين، غورباتشوف المتلهف والمتسرع لعقد مزيد من المعاهدات، وريغان المتروّي غير المصدق ما يحدث أمامه من تصدّع سوفييتي، يأتي على شكل دعوات إلى مناقشات جديدة حول العلاقات الثنائية التي تحمل متغيرات كثيرة، لا تناسب أسلوب حكم القياصرة السوفييت الجدد. أثمرت إحداها عن معاهدة التخلص من الأسلحة النووية متوسطة المدى، وهي معاهدة أخرجت من السوق كل الأسلحة النووية ذات المدى المتوسط، وباتت كلياً خارج إطار المنافسة في الحرب الباردة آنذاك.
الآن، وخلال الجولة الانتخابية الأميركية أخيرا، قال دونالد ترامب إنه ينوي الخروج من هذه المعاهدة، بذريعة أن الجانب الآخر أخرها مرّات، ولا يتوجب على أميركا الإذعان للقوانين فيما لا يحترمها الآخرون.
خرقت روسيا، وريثة السوفييت، شرعية الاتفاق بالفعل، واعترفت بأنها نشرت بعضاً من الصواريخ التي ينطبق عليها توصيف متوسطة، وكان فلاديمير بوتين في عام 2007 قد صرّح أن هذه الاتفاقية لم تعد تخدم المصالح الروسية، فيما عكس رغبة روسية في نشر هذه الصواريخ على مقربة من أوروبا، لتطاول بها الحواف القريبة لدول حلف الأطلسي، ولحماية شبكة الغاز الروسية التي تمتد في العمق الأوروبي، وأصبحت تشكل شريان حياة روسيا جديدا، يمكن أن يتحول إلى أوراق ضغط وابتزاز سياسي، كما يحصل طوال الوقت، خصوصا مع ألمانيا. وهذا ما جعل الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والأمنية أن يرتعد، قائلاً إن المعاهدة ضمانة لأمن أوروبا، عاكساً تخوفاً كبيراً من فكرة إلغائها. هذا يجعل أوروبا تحاول التقرّب مرة أخرى من روسيا، ويخفِّض رغبة الأوروبيين في الضغط عليها لصالح ترامب، خصوصا أن بوتين كان قد صرّح أن ترسانته النووية هي لرد الفعل فقط، ولن تقوم بأي عمل، ما لم يبدأه الآخرون، لكنهم عندما تعمل المنظومة النووية الروسية لن يجدوا وقتاً لترديد صلواتهم، وسيذهبون إلى الجحيم، قبل أن تتاح لهم فرصة الاستغفار.
إذا انسحبت أميركا بالفعل من اتفاقية الأسلحة النووية المتوسطة، لن تتبقى توافقات نووية بين روسيا وأميركا إلا معاهدة وحيدة، تدعى معاهدة ستارت الجديدة، وهذه وقّعت بين الرئيسين، الأميركي باراك أوباما والروسي ديمتري ميدفيدف، في ظروف طقسٍ حسنة في العاصمة التشيكية براغ، ولكن لستارت الجديدة نفس قصير جداً، إذ سينتهي العمل بها في عام 2021، وفي ظروف المناخ النووي السيئ لن يتم تجديدها، خصوصا إذا أعيد انتخاب ترامب مجدّداً، وعندها سيبقى الباب مفتوحاً لفوضى نووية عارمة، مع وجود مستشارين من عينة جون بولتون على مقربة من الرئيس، أما إذا جاء إلى البيت الأبيض رئيس ديمقراطي جديد، فالأمر يعتمد، إلى حد بعيد، على مزاجه النووي.
منذ بداية عقد التسعينيات، دخل سوق الأسلحة النووية لاعبون جدد، اكتسب بعضهم قدرة وعطالة عسكرية كبيرة كالصين، وهذه بقيت خارج لعبة الاتفاقات الأميركية الغورباتشوفية، وقد فطن ترامب بالطبع إلى ذلك، وتهديده بالخروج من المعاهدة يعود جزئياً إلى العامل الصيني.
إذا انفك عقد هذه الاتفاقية، سيصبح التخبط النووي في أوجه، ووجود إسرائيل الرافضة للتسلح الإيراني في المنطقة قد يجعلها تخرج أسلحتها إلى العلن، عندها سيصبح الشرق الأوسط ميداناً جديداً لاختبار هذه الأسلحة، كما برهن من قبل على أنه حقل مثالي لاختبار الأسلحة التقليدية.