الطريق إلى مكة

ربما أدرك بعض أبناء جيلنا قصص الأجداد حول أهوال طريق الحج الذي كان يستغرق شهورا سيرا على الأقدام، وركوبا للجمال، وعبورا بالمراكب للبحار.
وعن وصول الحجاج من مصر والمغرب العربي إلى بيت الله الحرام، يشرح ابن جبير الأندلسي بالتفصيل، هذه الرحلة عام 579 هـ، والتي استغرقت من القاهرة إلى جدة نحو شهرين ونصف الشهر، قضاها في أسوأ حال بين مشقات وأهوال.
وبعده في عام 725 سافر الرحالة الشهير، ابن بطوطة، المغربي الأصل، إلى مدينة عيذاب على ساحل البحر الأحمر في صعيد مصر، قاصدا الوصول إلى جدة، لكنه لم يجد مركبا يحمله إلى هناك، فعاد منها إلى مصر، ثم بلاد الشام، ثم إلى بغداد، وسافر منها مع المحمل العراقي في العام التالي.
كانت مصر محطة عبور أهل المغرب العربي إلى الأراضي المقدسة، وكان طريق الحج يبدأ من تجمع الحجاج القادمين من غرب العالم الإسلامي وجزر البحر الأبيض المتوسط وبعض الترك والقوقاز القادمين من الشمال، في القاهرة قبل شهر رمضان، ثم يسيرون منها إلى قوص ومسافتها 640 كيلومترا، كانوا يقطعونها برا أو في النيل في نحو عشرين يوما، ثم من قوص تسافر القوافل في الصحراء الشرقية مدة خمسة عشر يوما، يقطعون فيها نحو 160 كيلومترا إلى مدينتي عيذاب أو القصير على البحر الأحمر، وكان للمدينتين أهمية كبيرة قبل حفر قناة السويس، وأخذت السويس يما بعد حفر القناة دور هاتين المدينتين.
وكان الحجاج يقيمون في عيذاب أو القصير مدة شهر في انتظار الفلايك (مراكب صغيرة) التي تحملهم إلى مدينة جدة التي يصلون إليها بعد أسبوعين. وبعد حفر قناة السويس، حلت مدينة السويس محل القصير، وتم عمل خط سكة حديد لربط القاهرة بالسويس في عهد الخديوي سعيد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر .
ومن السويس إلى جدة في المراكب الشراعية في نحو عشرين يوما، أو برا عن طريق العقبة إلى مكة المكرمة، حيث تصل إليها القوافل في نحو خمسين يوما.
ومع إنشاء خط سكة حديد الحجاز نهاية القرن التاسع عشر، أصبح في مقدور بعض الحجاج الوصول إلى المدينة بالقطار أولا، ومنها إلى مكة، أو يفعل ذلك في طريق العودة؛ حيث يُختَصر الزمن من السويس إلى مكة في نحو أسبوع.
وعلى الرغم من هذه المشاق؛ كان هناك وجه آخر لفوائد عديدة؛ فقد كانت رحلة الحج الباعث الأساس لأدب الرحلات الذي تعرفنا منه على وصف البلاد وأحوال العباد من خلال الرحالة، أمثال ابن جبير وابن بطوطة، وحديثاً مع بداية القرن العشرين الرحلة الحجازية لوصف رحلة الخديوي عباس حلمي للأراضي الحجازية، وهو مرجع مهم لما تبقى حتى هذا التاريخ من آثار مكة التي انطمست بفعل التوسعات التجارية.
وكان لها فائدة عظيمة أخرى في التبادل العلمي والثقافي بين البلاد الإسلامية؛ فالأراضي المصرية تزخر بعلماء قدموا لها من المغرب العربي واستوطنوها في طريقهم إلى الحج، وما زالت قبورهم في أراضيها، مثل أبو الحسن الشاذلي وأبو العباس المرسي.
وما زالت تجمعات المغاربة واليمنين وغيرهم تحمل أسماءهم في أسواق مكة وشوارعها.