إنذار السترات الصفراء

إنذار السترات الصفراء

08 ديسمبر 2018
+ الخط -
بستراتهم الصفراء، أطلق متظاهرو فرنسا أجراس إنذار مدوّية عالمياً، على الرغم من أن كلاً يغني على ليلاه.
بعد نحو ثلاثة أسابيع من توسع الاحتجاجات إلى عنف واسع، تراجعت أخيراً الحكومة الفرنسية عن خطة الضريبة الجديدة على الوقود لصالح حماية البيئة. وإذا كان من المؤكد أن الصورة أكثر تعقيداً من منح صفات الملائكية أو الشيطنة للمحتجين الذين يمثلون فئات متنوعة في أسبابها وتوجهاتها وأعمارها، بمن فيهم بالطبع أنصار اليمين المتطرّف الذين ردّدوا هتافاتٍ عنصرية ضد المهاجرين (وللمفارقة شارك شبان مهاجرون أيضاً بالتظاهرات) إلا أنه يمكن وضع إطار عام، خلاصته الشعور العام بالتدهور والخوف من المستقبل.
فلنلجأ إلى الأرقام، لا العواطف.. تخبرنا "قاعدة بيانات لوكسمبورغ للدخل" في تقريرها المهم أخيرا عن "دخول الأجيال" إن جيل شباب الولايات المتحدة اليوم يواجه انخفاضا في دخله الحقيقي بمقدار 5% عن الجيل السابق، بينما بلغ انخفاض دخل الشباب الألماني 9%، أما من يعيشون في جنوب أوروبا فالصورة أكثر قتامةً، بعدما انهارت دخولهم بنسبة 30%. لا أرقام تخص دولنا العربية، ولكن في الحالة المصرية مثلا، لا نحتاج مقارنات أجيال، بل يكفي فقط المقارنة قبل قرار التعويم في 2016 وبعده!
يئن البريطانيون تحت وقع تخفيضات ميزانيات التعليم والصحة والشرطة والإعانات الاجتماعية، ويشكو عمال "حزام الصدأ" الأميركي من البطالة، بعد مغادرة الشركات العملاقة لتنشئ مصانعها في الهند والصين والمكسيك وبنغلادش، وهذه زاوية أخرى لافتة، فالحقيقة أن فرضية "اليد الخفية" للسوق، وحتمية أن يصبّ التقدم الرأسمالي لمصلحة المجتمع بالنهاية أغفلت تماماً عنصر حرية انتقال رأس المال عالمياً. وبالتالي، أصبح العامل المكسيكي أو الهندي يمكن أن يحصل على وظائف الشركات الأميركية، لا مواطنها، على الرغم من أنه يحظى بجنسية الدولة التي نشأت على يدها العولمة.
وكما أشار المفكر الراحل سمير أمين إلى أن من أبرز المشكلات الهيكلية بمنظومة الاقتصاد العالمي حرية انتقال رؤوس الأموال، بينما لا يوجد حرية انتقال للعمالة، وأسفر هذا عن وجود سعر عالمي للسلعة (سعر هاتف آي فون في أميركا نفسه في الهند)، بينما لا يوجد سعر عالمي للعمل (قارن أجر العامل الأميركي بأجر العامل الهندي).
على جانب آخر، أدت هذه المنظومة إلى شيوع سياسات "التجنب الضريبي" بما لا يعد من المليارات سنوياً بشكل قانوني تماما، وهو ما أصبح مُستنكراً حتى في عقر دار الرأسمالية بأوراق البنك الدولي وصندوق النقد، وحالياً تدرس دول أوروبية تطبيق ضريبةٍ على شركات التكنولوجيا، بحيث تفرض على مكان النشاط لا مكان إصدار الفواتير. وفي طبقة أعمق، تظهر مشكلات جذرية أخرى، تخص معدل استهلاك البشر موارد الكوكب. وفي هذا السياق، يأتي ذكر ظاهرة التغير المناخي.
ولأن الأزمة في غاية التعقيد والتجذّر، تقف النخب التقليدية عاجزة، ولعل في هذا تفسيراً لما حدث بفرنسا، على الرغم من أن فيها كامل "حقوق التنظيم" للمواطنين من اتحادات الطلاب حتى تغيير الرئيس، لكن قطاعا من المواطنين لم يجدوا تمثيلاً لهم.
ليس بالضرورة أن تنتج الأزمة وعياً أفضل بمشكلات النظام، بل كانت الأزمات الاقتصادية في الثلاثينات وراء صعود النازية والفاشية. واليوم نشهد صعود اليمين من ألمانيا إلى البرازيل، يفوز ترامب في أميركا وتنجح حملة "البريكست" في بريطانيا.
يرتبك اليسار التقليدي، وتظهر تياراتٌ جديدة أكثر أو أقل تشدداً، وقد شهدنا استقالة وزير المالية اليوناني، فاروفاكيس، على الرغم من أنه من كان يصف ممارسات أوروبا دائنة بلاده بـ "الإرهاب"، وبأنها تهدف إلى "إذلال اليونانيين". وقال إنه فعل ما فعل ليحمي البلاد من خطر اليمين.
وبعيداً عن ذلك كله، في عالم موازٍ، كان إعلاميون مصريون يفردون مساحات واسعة لمظاهرات فرنسا لتحذير الفرنسيين قبل المصريين، وذلك على الرغم من أن المعارضين المصريين أنفسهم لم يفعلوا ذلك. يبقى شبح الثورة محيطاً بالحاكم، لا ينساه، على الرغم من نسيان المحكومين.