احتفالا بقصص ضياء جبيلي

احتفالا بقصص ضياء جبيلي

07 ديسمبر 2018
+ الخط -
أصاب القاص والروائي العراقي، ضياء جبيلي (41 عاما) في قوله، قبل أسابيع، إن جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية، والتي تتبنّاها الجامعة الأميركية في الكويت، جاءت في وقتٍ مناسب، تعيش فيه القصّة ظروفًا صعبة، إذ تنسحب شيئًا فشيئًا إلى الظل، بفعل هيمنة الرواية على الوسط الثقافي العربي برمّته، والانصراف الكلّي إليها. ولذلك، تستعيد هذه الجائزة بعضًا من بريق القصّة القصيرة، ومكانتها بين الأجناس الأدبية. .. أما وأن لجنة التحكيم (العربية) للجائزة في دورتها الثالثة (2017 – 2018)، وترأسّتها الناقدة الكويتية، سعاد العنزي، أعلنت، الأسبوع الجاري، فوز مجموعة جبيلي "لا طواحين هواء في البصرة" (دار سطور، بغداد، 2018)، فإنها في هذا دلّت جمهورَ قرّاء الأدب العربي الراهن إلى موهبةٍ في القصة القصيرة العربية الحديثة، عالية الإبداع والكفاءة، لا تزيّد في الزعم هنا إن رهانا ثقيلا عليها في إعادة تمكين هذا الجنس السردي الأدبي من استعادة مقروئيّته، بل وأيضا استعادة مجدِه (عذرا على هذه المفردة غير المحبّبة لصاحب هذه الكلمات). وربما ساهمت النتائج الطيبة لجائزة الملتقى، في قوائمها القصيرة في دوراتها الثلاث، في إنجاز مبتغاها أن تستعيد القصة القصيرة العربية مكانتها المُبعدة. ومن شواهد على ذلك المستوى الرفيعُ لقصص المجموعات الثلاث الفائزة بالجوائز الأولى. أما المغرمون بالطخّ على الجوائز العربية كيفما اتفق، بترديد أي كلامٍ سهل، من دون قراءة النصوص المكرّمة، فيقال لهم هنا إن ثمّة أعمالا فازت بجوائز في غير بلد عربي ولا تستحق، وأخرى فازت وتستحق، كما يحدث في كل العالم، وكما في "نوبل للآداب" أيضا.
عندما يكتب ضياء جبيلي ثلاث مجموعاتٍ قصصيةٍ، تحرز إحداها المرتبة الثانية في جائزة الطيب صالح في السودان في دورتها السابعة (2017)، وتنال ثانيةٌ واحدةً من الجوائز الخمس في الدورة الثانية لجائزة الملتقى في الكويت (2017)، ثم تنال الثالثة الجائزة الأولى في الدورة الثالثة (20 ألف دولار)، فهذا أولا يعني أنه يحدث كثيرا في الجوائز العربية تقديرٌ مستحقٌّ لأصحاب مواهب بديعةٍ في كتابة أدبٍ جديد، وثانيا أن ضياء جبيلي ليس كاتبا عاديا للقصة القصيرة العربية. وهذه مجموعته الفائزة أخيرا، المنوّه هنا بحذاقتها، وبراعة مكرها وإيحاءاتها وظلالها، تورّطنا في عملية اكتشافٍ ممتعةٍ لفائض الكفاءة في السرد والقص والحكي لدى هذا الكاتب (وإن احتاج معرفةً أفضل بالنحو!)، عندما يفاجئك، في كثيرٍ من القصص الـ 76 في الصفحات الـ 176 للمجموعة، بالنهايات الذكية فيها، والتي تبدو ضرباتٍ إبداعيةً، كأنها ذروةُ القصة نفسِها ومقصدُها. وإذا كان قد أشير، في قراءاتٍ عجولةٍ لها، إلى الغرائبية، والواقعية السحرية، وتزاوجهما، في مواضع غير قليلة، مع عجائبياتٍ وفانتازياتٍ، فذلك كله ليس وحده ما يصنعه ضياء جبيلي في قصص "لا طواحين هواء في البصرة"، وإنما أيضا ثمّة ما نوّهت به لجنة التحكيم، "... السرد الساخر الذي حوّل الحرب إلى موضوع تساؤلٍ كبيرٍ بأهمية ما يجري من عبثٍ وعدميةٍ ورغبةٍ صادقةٍ بالنجاة من عبثية الموت".
اختار القاص عنوانا لمجموعته ليس لأيٍّ من قصصها، كأنه يختارُه إيحاءً بما تشيعه القصص من ظلال، ذلك أنه عنوانٌ يعبّر عن سكونٍ في البصرة، عن نقصانٍ في الحياة، عن مواتٍ منظور ومحسوسٍ وباهظ الحضور. ولكن القصص نفسها ذات إشراقاتٍ وحيويةٍ باديتيْن، في مبناها، وفي تعبيراتها التي تضجّ بالدلالات، عندما تعتني بدواخل الشخصيات، حيث الألم والأمل، النجوى والحيرة، القلق والعاطفة، حيث أنهارٌ من المشاعر، في لحظات انتظار أسيرٍ لا يعود، أو ذهاب جندي إلى حرب، أو موت مزارع في قصف، أو غير ذلك من لوحاتٍ سرديةٍ (هل تجوز هذه؟)، ذهب فيها ضياء جبيلي إلى الحروب في العراق، مع إيران، ثم أميركا، ثم الحصار، ثم الإرهاب، وفي أثناء هذا كله وغيره، ثمّة شابةٌ جميلةٌ تنتظر أي كلمة غزلٍ لا تأتي، ثم تشعر بها، وهي في نافذة مكتبها في عملها في البصرة، عندما تنظر عيناها المكحلتان إلى عيني السياب، واقفا تمثالُه على شط العرب. وثمّة طفلةٌ في الخامسة من عمرها تنتظر رئيس جزر القمر يهبط من القمر، ليضيء ظلاما في المدينة، لكنه لا يهبط، بعد أن فرحت كثيرا لمّا سمعت أن رئيس جزر القمر سيأتي مبكّرا إلى القمة العربية في بغداد.
358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".