الأشياء الجامدة

الأشياء الجامدة

06 ديسمبر 2018
+ الخط -
عِلّتي الوحيدة أنني أرى الأشياء الجامدة بمنظور مختلف تماما، لا كما يراها الآخرون. بعد الإعصار المدمر الذي ضرب المدينة الساحلية اليونانية، بُّولي، وجزرها العائمة، لا أظن أن العاصفة بعد ذلك تركت لي شيئا أركن إليه.
وبالقدر الذي جعلتني متشردا ومذموما ووقحا في نظر بعضهم، ربما منحتني، في المقابل، كثيرا من الحُرّية، شأن كثيرين من أمثالي، ممن يملأون مرافئ الساحات والممرات، وكذا المعابر. ومضيت في ذلك على وهن العجوز المتشرد أو العجوز الأحمق أو العجوز الذي من دون عائلة، فأن تكون على الهامش يعني أنك مختلّ، حتى لو لم تكن كذلك فعلا، هذا هو المقياس الأخير، وخصوصا في مدينة تتنصل من نباح كلابها ومواء قططها وعالمها السفلي، لتكون راقية ومهذبة، وتهتمّ باللعب والنجوم والأضواء لإضاءة لياليها.
بعد ذهاب الكل، أي، مع الإعصار، كنت كالمقطوع من شجرة، صرت أستشعرُ وحشة الفراغ، كأي ضائع، وحدها الدمى وجدتُها تقاسمني الغرفة، غرفة السطح، وتأخذ مكانها إلى الزوايا والجدران، وإلى حواشي الأثاث. كنت سابقا أستبعد هذا، أن أنسج علاقات مع الدمى.! فأكلمها وتكلمني، وأعرف لغتها وتعرف لغتي. عندما يهدأ الوضع، وأرى الوقت مناسبا، وأنْ لا أحد ممن تبقّوا يمكنهم أن يصعدوا الدرج، أو يحاولوا بلوغ سطح العمارة، أجد الرغبة القديمة القابعة في أعماقي تنتظر. الرغبة في جارتي العجوز تُعاودني وتستفزني، كي أتخلى عن رزانتي، رزانة الشيخوخة التي استقرت في داخلي أو التي عُرفت بها، وتدعوني إلى تسَلق الحائط مرة أخرى كطفل صغير، إما باستعمال المائدة أو صندوق الأوراق أو شيء يقرّبني من الثقب أو النافذة الصغيرة ذات الستار الغامق المعلقة في الحائط.
الغَرض من هذه المحاولة، أن أرى جارتي العجوز بعد أن أزيل الستار وقد تحرّرت من كل شيء، عارية تماما، على حقيقتها. أحب منها هذا العري الكاشف. أحب أن أراها في وضعيةٍ ليست كالتي أراها عليها، وهي في طريقها، تدبّ في مشيتها في أدب جم ووقار، أو هي تسلك الجهة المقابلة إلى محلات العِطارة والبَازار.
وأنا أتسلق الحائط لبلوغ الثقب، أحس وكأن الدمى تواطأت سرًّا فيما بينها وباعت قضيتي، قضية التسلق بجملة واحدة. وجعلتني في أفواهها العجوز المتسلق! أتخلى عن فكرة التسلق هذه، مرغما، كأي فكرةٍ عابرةٍ لا تروق، والتي ربما لا تليق ولا تناسب من هم في مثل سني. ألتفت إلى الدمى، لعلي أضبطها تتكلم، كما توهمت، أو تفعل شيئا أو تفصح عن بعض نياتها. كانت هادئة وساكنة تماما، وكأن لا شيء يعنيها. كعادتها، من غير الْتفات ولاحراك. صرت أقول في نفسي والرغبة تحذوني في حنق: من تتجرأ من هذه الدمى وتفشي السر؟ ألم تكن هي العزاء والعوض!؟
دفعتُ عني العارض الذي ألَمّ بي، وأسدلت الستار، أعتذرت للدمى، وأكدت أن عِلّتي الواحدة أنني أرى الأشياء الجامدة بمنظور مختلف تماما، لا كما يراها الآخرون، وإنْ تسلقت وأزلت الستار، لا يمكنني رؤية العجوز وهي عارية!
64482E8B-AD21-4651-946E-D8BFF261423E
64482E8B-AD21-4651-946E-D8BFF261423E
عبد القادر لحميني (المغرب)
عبد القادر لحميني (المغرب)