هذه الوكالة لبيع الوزراء وشرائهم في العراق

هذه الوكالة لبيع الوزراء وشرائهم في العراق

06 ديسمبر 2018
+ الخط -
قال زعيم التيار الصدري في العراق، مقتدى الصدر، في 21 من الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني) إن "لديه أدلة تتضمّن تسجيلات صوتية، ورسائل هاتفية تبادلها المتورّطون مع سياسيين، بخصوص بيع حقائب وزارية، بينها الداخلية والدفاع والتربية". وخصّ في التصريحات نفسها حليفه، هادي العامري، زعيم كتلة الفتح، "بالتورّط في صفقات بيع حقائب وزارية، ومناصب مقابل عشرات ملايين الدولارات"، الأمر الذي أجبر رئيس الحكومة، عادل عبد المهدي، على إعلان تعهده "بالتحرّك خلال ساعات، إذا حصل على معلوماتٍ مؤكّدة عن بيع وشراء المناصب والحقائب الوزارية". ولا أجازف إذا كتبت أن كل هذه الفضائح سيجرى التستر عليها، وكأن شيئاً لم يكن. ولا يغير من هذه الحقيقة تقديم كبش فداء احتفالاً ببراءة جميع المتهمين. 
ليست عملية بيع الوزراء والمقاعد البرلمانية والمناصب العليا وشرائها جديدة لجهة الحكومات السابقة، لكن الفرق، هذه المرة، أن الشهود من أهل البيت، وبطريقةٍ علنيةٍ بالصوت والصورة. ليس هذا فحسب، وإنما نسمع ونرى، كل يوم، شهوداً آخرين، ومن أهل البيت أيضاً، يؤكدون على طائفية الحكومة وفساد عديدين من أعضائها، إلى درجة دفعت نواباً عديدين، خرجوا من المولد بدون حمص كما يقال، بجمع تواقيع كافية لسحب الثقة عن وزراء حاليين، ورفض منح الثقة للوزراء الثمانية المؤجلين.
هذه الحالة المزرية التي وصلت إليها هذه الحكومة الجديدة هي نفسها التي مرّت بها الحكومات السابقة، كونها نتيجة للسبب نفسه الذي لم يتغير. والمقصود هنا الانتخابات المزوّرة وقانونها المعوج الذي أشرف على تصميمه الحاكم المدني للعراق حينها، بول بريمر، حيث اعتمد هذا القانون على نظام التمثيل النسبي، ونظام الدوائر على عدد المحافظات وتوزيع المناصب على أسس طائفية وعرقية، الأمر الذي يؤدّي حتماً إلى آلية عمل تستند إلى سرقة ثروات البلاد وإشاعة الفساد المالي والإداري، وارتكاب الجرائم بكل أنواعها. بمعنى آخر، ليس غريباً أو مستغرباً أن تشكّل الحكومة الجديدة امتداداً للحكومات السابقة، بصرف النظر عن لباس الواعظين، أو الشياطين، الذي ترتديه كل حكومة على حدة.

ليس هذا استنتاجاً أو تحليلاً سياسياً أو رجماً بالغيب، وإنما يستند إلى سجلات الحكومات السابقة السوداء من دون استثناء. وبحسبة بسيطة، أو حسبة عرب كما يقال، أثبتت هذه الحكومات المتعاقبة عدم جدواها، وعدم قدرتها على تحقيق أي منجز سياسي أو اقتصادي أو خدمي لصالح العراقيين. وأثبتت أيضاً أن جميع المناصب الحكومية والبرلمانية قد عادت على أصحابها بمئات ملايين الدولارات، وبعض منها بالمليارات. كما أثبتت كذلك أنها حكومات فاسدة ومرتشية، مثلما هو البرلمان والقضاء والهيئات العليا المستقلة. في حين أثبتت، في المقابل، أنها حكوماتٌ قامت من أجل تنفيذ أوامر المحتل، وتحقيق أهدافه الغادرة بتدمير العراق دولةً ومجتمعاً. وليس هذا غريباً أو مستغرباً، إذ لم يحدث قط أن تمردت حكومةٌ من هذا النوع على سيدها، وامتنعت عن تنفيذ أمر من أوامره، خصوصاً إذا كان السيد من وزن أميركا، قوياً وذا جبروت. وكان أعضاء الحكومة من طينة هؤلاء الذي وصفهم الحاكم الأميركي، بول بريمر، نفسه في وصاياه العشر إلى خلفه جون نيغروبونتي بالقول "إياك أن تثق بأيٍّ من هؤلاء الذين آويناهم وأطعمناهم، نصفهم كذابون والنصف الآخر لصوص". هذه هي الحقيقة، وأي خلاف حولها يعد إما سذاجة سياسية، أو لتحقيق أهداف ذاتية أو فئوية ضيقة.
وفق هذا السياق، ليس صعباً على العراقي البسيط التوصل إلى قناعة قاطعة بكذب الوعود الذي قطعها عادل عبد المهدي على نفسه وزيفها، بمحاربة الفساد وتقديم المفسدين إلى المحاكم العادلة، واسترجاع الأموال المسروقة، أو تغيير الواقع السيئ، والقيام بإجراء إصلاحات جدية في العراق. بل توصل العراقيون إلى قناعة أخرى، هي عدم قدرة أي من القادمين الجدد على إجراء أي إصلاح، مهما كان متواضعاً يضر بمصالح الأحزاب الطائفية الحاكمة، كونها محميةً، من جهة، بمليشيات مسلحة من الرأس حتى أخمص القدمين، ومحمية، من جهة أخرى، بتعويذة الدستور التي تمنع أي تعرّض لها، بذريعة الحفاظ على العملية السياسية الطائفية، وقطع الطريق على إسقاطها أو حتى المساس بركن من أركانها، وهذا الدستور "خالد"، ولا يمكن لأية جهة أو كتلة مهما كانت قوية ومهابة القيام بتعديله، أو تعديل أية مادة فيه، لامتلاك كل من هذه الأحزاب والكتل الطائفية حق النقض (الفيتو) وفق فقرته الرابعة من المادة 142.
في المقابل، وعلى الجهة الأخرى، فمقتدى الصدر وقائمته سائرون، الذين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها، ببرامج وإعلانات وتصريحات نارية عن عزمهم على القضاء على الفساد ومحاكمة المفسدين وتحقيق مطالب الشعب السياسية والخدمية، فإنها تحطمت دفعة واحدة بتحالف الصدر بعد فوزه في الانتخابات المزورة مع هذه الحيتان، ومع أشد الكتل الطائفية، التي تمثلت في كتلة الفتح التي يرأسها هادي العامري، الطائفي المتميز والفاشل سياسياً وإدارياً، حسب اعترافه في خطاب متلفز، ومع اكثر الكتل فساداً المتمثلة في كتلة عمار الحكيم، ومع عراب الاحتلال الأميركي، إياد علاوي، وغيرهم. كل ما فعله السيد وقوفه ضد هذا المرشح أو ذاك، لسبب كيدي أو شخصي، مثل المرشح لوزارة الداخلية، فالح الفياض.

باختصار، ما حدث ويحدث أحبط أمل العراقيين في الإنقاذ من المصيبة التي حلت بهم جراء إيمانهم المطلق بأن عادل عبد المهدي، ومهما استحضر من وسائل الخداع والتضليل، لن يزعزع إيمانهم هذا قيد شعرة، خصوصاً وأن المواطن العراقي، مهما كان بسيطاً، أصبح خبيراً بمعرفة هذه الزمر الحاكمة، وضلوعها في ارتكاب الجرائم ودخولها في مستنقع الفساد والسرقات ونهب الممتلكات العامة والتلاعب بقوت الناس. مثلما أدرك عدم وجود أية إمكانية لإنهاء هذه الحيتان، أو إمكانية محاسبة أو مساءلة أحد منهم، حتى وفق قانون "من أين لك هذا".
لقد تم ترسيخ هذه القواعد الكونكريتية المسلحة من المحتل الأميركي، ووصيفه الإيراني، التي تقوم على السرقات المتنوعة، وإشاعة الفساد المالي والإداري، لإنتاج مثل هذه الحكومات الفاسدة، وهيمنة الحيتان عليها. ليس هذا فحسب، وإنما تعمد المحتل على السماح لهذه الحيتان بتركيز ثروة طائلة في أياديها لكي تمنحها القدرة والإمكانات على إذلال الشعب وتجويعه وإذلاله، وإبعاده عن هويته الوطنية، وتقسيمه إلى قوميات وأديان ومذاهب، من خلال ترويج تعبيراتٍ لم نعتد على استخدامها من قبل، مثل، هذا مسلم وهذا مسيحي وذاك صابئي، هذا شيعي وذاك سني والآخر آشوري أو كلداني، ولم يجر أيضاً في السابق تقسيم المجتمع العراقي إلى مكونات، كرد وشيعة وسنة، بعد أن كان العراقي يتباهى بالانتماء للوطن وحب العراق والأخوة والعيش المشترك.. إلخ.
امتلأت قلوب العراقيين قيحاً، وصدروهم غيظاً من هؤلاء الحكام، وهذا سيجبر العراقيين على اللجوء إلى انتزاع حقوقهم المشروعة بأيديهم. وبالتالي العودة بقوة إلى سلوك طريق الانتفاضات الشعبية، سلميةً كانت أو مسلحة. وقد نجد شراراتها الأولى قد لاحت في الأفق، والمتمثلة في التظاهرات والاحتجاجات الجارية اليوم في مدن العراق الجنوبية، وفي مقدمتها مدينة البصرة، ضد حكومة عادل عبد المهدي، حتى قبل استكمال تشكيلتها.
لم يقدّم التاريخ لنا مثلاً عن محتل تخلّى عن غنيمته طواعية، وترك الشعب المحتل يقرّر مصيره بنفسه، إلا في حالة واحدة، هي عدم قدرة المحتل على الصمود أمام مقاومة فعالة أو ثورة أو انتفاضة، تصر على انتزاع حقوقها وحريتها، مهما طال الزمن، وغلت التضحيات.
449E67CD-2345-4256-B47C-D40EDFC14B37
449E67CD-2345-4256-B47C-D40EDFC14B37
عوني القلمجي

كاتب وسياسي عراقي رئيس التحالف الوطني العراقي سابقا

عوني القلمجي