تنبـؤات رجُـلٍ اسـمه شـارل مالـك

تنبـؤات رجُـلٍ اسـمه شـارل مالـك

05 ديسمبر 2018

شارل مالك.. مساهمة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (14/1/1957/Getty)

+ الخط -
(ولما كان تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها، قد أفضيا إلى أعمالٍ همجية آذت الضمير الإنساني، وكان ما يرنو إليه عامة البشر انبثاق عالمٍ يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة ويتحرّر من الفزع والفاقة..) من ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، 10 ديسمبر/ كانون الأول 1948.
(1)
تحتفل البشرية، بعد أيام، بالذكرى السبعين لأهم وثيقة توافقت عليها بلدان العالم، واعتمدتها الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة في العاشر من ديسمبر/ كانون الأول من عام 1948، أي بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها بأعوامٍ ثلاثة. تلك هي الوثيقة المعروفة بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان. قال الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، الراحل كوفي عنان، إنه من أعظم إنجازات القرن العشرين.
ومن دواعي الأسى أن تحل هذه الذكرى السبعينية لهذه الوثيقة التاريخية التي توافق عليها العالم، لتكون الوثيقة الفارقة بين دمار الحروب وإعمار السلام، لنجد الحال الماثل الآن أكثر سوءاً من حاله في أعقاب الحرب العالمية الثانية عام 1945.
وإن كان التناسي الذي أشارت إليه ديباجة الإعلان العالمي هو محض تناسٍ، فإنه قد صار الآن نسياً منسياً، واستخفافاً صارخاً، بل ازدراءً يفاخر به بعض من تولوا قيادة الأمم في زمان الغفلة هذا.
(2)
وما يزيدنا فخراً، أن الطاقات الفكرية التي كانت وراء هذا الإنجاز الإنساني العظيم جاءت من مفكرٍ لبناني، انتماؤه للمنطقة التي شهدت مهبط الديانات السماوية. هو فيلسوف ومفكر ودبلوماسي ووزير، اسمه شارل مالك. درس الفلسفة في الجامعة الأميركية، والتحق بجامعة هارفارد في الولايات المتحدة، ونال الدكتوراه في رسالته الأكاديمية المعمقة عن الفلسفة الوجودية بين هيجل وهايدغر. درس الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت، ودرّس فيها، وكان له نفوذ فكري طاغٍ على كثيرين من تلاميذه ومجايليه.
أوفدته الحكومة اللبنانية ليمثلها في الولايات المتحدة حيث أنشأ السفارة هناك، وقضى سنوات مثمرة، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، وتداعى الكبار لإنشاء منظمة عالمية جديدة، تعيد السلام والأمن بعد انهيار "عصبة الأمم"، بدأ نجم شارل مالك يبث إشعاعه في المحفل الدولي الجديد.
(3)
شارك الرجل بفعالية في أعمال اللجنة الثالثة المنبثقة عن الجمعية العامة. هناك سعى لطرح اهتمامه المبكر بضرورة التوافق على شرعة لحقوق الإنسان، تجنّب البشرية ويلات الحرب، وتعيد استقراره وطمأنينته. ذلك ما أهله ليكون المساعد الرئيس لإليانور روزفلت التي كلفت الأمم المتحدة برئاسة لجنة حقوق الإنسان التي أنشأتها الجمعية العامة، وانبثقت من أعمال

المجلس الاقتصادي والاجتماعي. وحين شرعت اللجنة في وضع إطارها الفكري، بدا لها أن التحدي الرئيسي يدور حول إجابة مطلوبة لتساؤل عمّا إن كان ثمّة وجود لحقوق مطلقة للإنسان، تتجاوز الأمكنة والخصائص السياسية والثقافية والعقائد، يمكن أن يتوافق عليها المجتمع الإنساني، وتكون لها الإلزامية القانونية والأخلاقية، من كل المجتمعات الإنسانية.
كان لشارل مالك القدح المعلّى في إدارة التفاوض المضني للتوافق الذي بدا صعباً إزاء الأقوياء المنتصرين في الحرب الثانية، وبقية البلدان الصغيرة والأقل حضورا في الساحة الدولية. آخر الأمر، وبروح من رجل شارك بفكره وبقلمه، أمكن إخراج "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" في العاشر من ديسمبر/ كانون الأول من عام 1948.
(4)
تمضي السنون وها نحن بعد سبعين عاماً من اعتماد شرعة حقوق الإنسان، لنا أن نسأل: من، يا ترى، يتذكّر تفاصيل موادها، وحقيقة إلزاميتها..؟ كلّ الأعضاء في الأمم المتحدة، كبارهم وصغارهم، الأقوياء فيهم والضعفاء، وقعوا على ذلك الإعلان التاريخي، فهل جرى احترام تلك الحقوق الإنسانية، بعد مرور كل هذه السنين، وهل عمّ السلام وانتشرت الطمأنينة في أنحاء العالم؟
من نبوءات شارل مالك التي أفصح عن فحواها، في أعوام الأربعينات من القرن الماضي، أنه وبعد أن وضعت شعوب العالم وحكوماته السلاح جانباً، سيُقدم العالم على حروبٍ من نوعٍ جديد، هي حروب الأفكار، ولقد لمس ذلك في إدارته التفاوض في لجنة حقوق الإنسان، بين من يميلون إلى ترجيح حقوق الفرد على حقوق المجتمع، فيما رجّح آخرون حقوق المجتمع لتعلو على حقوق الفرد. ذلك خلاف فكري، لكنه حمل البدايات الجنينية لسنوات ما سميت بعد ذلك "الحرب الباردة"، والتي تواصلت سنواتٍ امتدت حنى تسعينات القرن العشرين. أبصر شارل مالك، بعين الفيلسوف، وبعد أن مشى على جمر السياسة بقدميه، أن التنازع بالسلاح ستعقبه مراحل من التنازع بالأفكار.
(5)
نحمد لشارل مالك تفاؤله، غير أنه رحل ولم يسمع بما دار في أفغانستان، أو بكارثة "11 سبتمبر" ، أو حروب الأقليات والإرهاب الدولي. عاد غشم السلاح أشدّ فتكاً ممّا كان على عهد شارل مالك. وأكثر نبوءاته صدقاً ما أفصح عنه بشأن إسرائيل، في إحدى رسائله للحكومة
 اللبنانية، في 7 مايو/ أيار من عام 1948، وقبيل اندلاع الحرب بين العرب وإسرائيل. قال: (لقد أتم اليهود استعدادهم لإقامة دولتهم بالقوة، وسيباشرون الأعمال العسكرية، وسيباشرون العمليات العسكرية خلال هذا الشهر، فإن لم يقضِ العرب على هذه الدولة في غضون سبعة أيام، ستدوم سبعة أشهر، فإن لم يقضوا عليها خلال سبعة أشهر، ستدوم سبعة أعوام، فإن عجزوا عن إزالتها في سبعة أعوام فقد تدوم سبعين عاما وربما أكثر..).
رحم الله شارل مالك. لقد ناشد العرب، ناصحاً ومذكراً، أن يتعاونوا بجديةٍ لينالوا حقهم في الحياة، لكنهم تمزّقوا شعوباً وقبائل، لا يجمعها رابط يحترم. لعلّ المُبكي أن نجد شرعة حقوق الإنسان، التي أعطاها شارل مالك من روحه وفكره وقلمه، أن يكون للعرب قصب السبق في تمزيقها والاستخفاف بها. بعد سبعين عاما من إجازة هذه الشرعة، فإن من يرفع صوته برأيٍّ يخالف حاكماً عربياً، يقتص منه زبانية ذلك الحاكم، وتقطّع جثته، فلا يُتاح لها قبر يؤويها.