عن السعودية و"النهضة" التونسية

عن السعودية و"النهضة" التونسية

01 يناير 2019
+ الخط -
لم يكن أحد من المشتغلين بالشأن العام العربي، والمتابعين له، يتوقع حفاوة الاستقبال التي لقيها أمين عام حركة النهضة، تنظيم الإسلام السياسي الرئيسي في تونس، ووزير التنمية والاستثمار والتعاون الدولي، زياد العذاري، في أثناء زيارته المملكة العربية السعودية صحبة رئيس الحكومة التونسية، يوسف الشاهد قبل نحو أسبوعين. حفاوة تباهى بها الرجل الثاني في حركة النهضة، من خلال نشر صوره، وهو يسعد بجلوسه إلى جانب ملك السعودية، سلمان بن عبدالعزيز، ويوقع اتفاقيتين ومذكرة تفاهم في حضرته، ويسترق النظر إلى الملك وهو يصفق، بعد إمضائها بصفة متتالية. وصف العذاري ما أمضاه، على صفحته على "فيسبوك"، قائلا "تشرّفّت الْيَوْمَ بتوقيع اتفاقيتين ومذكرة تفاهم بين تونس والصندوق السعودي للتنمية في موكب انتظم بالعاصمة السعودية الرياض تحت إشراف جلالة الملك سلمان بن عبدالعزيز خادم الحرمين الشريفين والسيد يوسف الشاهد رئيس الحكومة". 
سوّقت صحف قريبة من حركة النهضة أن زيارة العذاري السعودية كانت بصفته أمينا عاما لحركة النهضة أكثر منها وزيرا للتنمية والتعاون الدولي، وأنه لم يكن من المبرمج أن يصاحب الشاهد في زيارته المملكة، وأن استدعاءه جاء لاحقا عن دعوة رئيس الحكومة من وزارة الخارجية السعودية، عبر سفارتها في تونس. واتهمت صفحات ذات نفسٍ نهضاوي وزير الخارجية، خميس الجيهناوي، بإخفاء دعوة العذاري إلى المملكة ضمن الوفد المصاحب لرئيس الحكومة، وهو أمر لا يمكن التسليم به، لما تنبعث منه من روائح شعبوية في الخطاب، وسذاجة وتبسيط في الفهم، تريد أن تظهر للرأي العام أن الأمين العام لحركة النهضة، والوزير في حكومةٍ تؤمّن لها الحركة الإسلامية الحاكمة أغلبيتها البرلمانية، يعيش نوعا من الاضطهاد والظلم والغربة وعدم الاطمئنان إليه، سواء من رئيس الحكومة أو من بعض وزرائه، مثل وزير الخارجية المتهم بأنه تصرّف خارج آداب الدبلوماسية وبروتوكولات العلاقات بين الدول، ومن ثمّة لم يكن مبرمجا الزيارة فجاءت دعوته من المملكة نفسها.

اللافت أنه سبق زيارة العذاري مجيء ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، إلى تونس بدعوة من رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، وقد تميّز موقف حركة النهضة تجاه تلك الزيارة بالازدواجية في الخطاب، والارتباك في الموقف، والهروب الرسمي من المواجهة، ففي حين صمتت القيادة النهضوية عن الزيارة، ولم تصدر بيانا في الغرض، واختارت كتلة "النهضة" في البرلمان، وهي الأغلبية الحاكمة، وعلى غير عادتها، عدم الحديث في الموضوع، أو الرد على مديرة الديوان الرئاسي التي صرحت في الجلسة العامة قائلة "إن الأمير بن سلمان هو ولي العهد، وهو مرحب به في تونس"، وذلك على هامش مناقشة ميزانية رئاسة الجمهورية في البرلمان التونسي، وجاءت ردود فعل الجمهور الواسع من النهضويين، المعروف تندّرا بشعب النهضة، حادة ورافضة زيارة ولي العهد السعودي، ووصفته بالمنشار والقاتل وغير المرحب به، وانطلقت تلك الردود في شكل احتجاجات افتراضية، عجّت بها منصات التواصل الاجتماعي النهضوية، على قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي وتقطيعه في القنصلية السعودية في اسطنبول، لتتحول بسرعة إلى مظاهراتٍ وتجمعاتٍ، كان أبرزها تجمع مجموعة من المتظاهرين أمام المسرح البلدي في العاصمة تونس من أنصار حركة النهضة ومن والاهم، بمشاركة مجموعاتٍ يساريةٍ وقوميةٍ صغيرة، استغلت الزيارة لتندد بالحرب السعودية في اليمن. وكانت هذه التحركات متناغمة مع البيان الذي أصدرته حركة النهضة في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، وأمضاه رئيسها راشد الغنوشي، معتبرا أن جريمة اغتيال خاشقجي، التي اعترفت المملكة العربية السعودية بمسؤوليتها في ارتكابها، بأنها وحشية، وشجبتها، بوصفها "جريمة بشعة تتنافى مع قيم الإسلام"، ضامّة صوتها إلى "كل الداعين إلى كشف ملابسات الجريمة ومحاسبة مقترفيها ومدبّريها وإحالتهم إلى العدالة"، أي إلى محاكمة القادة السعوديين الذين ارتكبوا جريمة تتنافى مع قيم الإسلام، وهم المؤتمنون دوليا على تمثيله وحمايته، وتطبيق تعاليمه، وإحياء شعائره، خصوصا في الحج والعمرة، بقيادة الملك سلمان بن عبد العزيز خادم الحرمين الشريفين كما وصفته تدوينة الأمين العام لحركة النهضة.
ينسجم موقف حركة النهضة من اغتيال الصحافي خاشقجي، ومن النظام السعودي ككل، مع المنهج الذي اختارته في علاقاتها الخارجية، بانحيازها إلى موقف تركيا، مركز حركات الإسلام السياسي العالمي ككل، المعروف بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وقائدته بامتياز، والتي مثلت تقليديا المنافس الأبرز للمملكة العربية السعودية على قيادة العالم الإسلامي السني بعد نهاية حكم محمد مرسي والإخوان المسلمين في مصر سنة 2013 الذي لم يخف رغبته في القيام بالدور نفسه، لتتحول إلى عدو للسعودية، بعد مقتل خاشقجي على أراضيها.
وفي حين اتسمت العلاقة النهضوية - التركية بالاستقرار، وبتبني حركة النهضة النموذج الإسلامي – التركي، والدفاع عنه باستماته، وتمثُل دور الرئيس التركي أردوغان، واستبطانه خليفة للمسلمين، واعتبار كتابات راشد الغنوشي مرجعية أيديولوجية للإسلاميين الأتراك الذين ترجموها إلى اللغة التركية، وبالتأييد المطلق وتوفير أسباب النجاح والحماية للتجربة النهضوية في الحكم زمن الترويكا (2012 – 2013)، وبالدعم المادي واللوجستي والسياسي والدبلوماسي للحركة الإسلامية التونسية. استمرت العلاقة النهضوية – السعودية متوترة منذ سنة 2011، ففي تلك السنة صرّح راشد الغنوشي، وهو يزور الولايات المتحدة، التي كان يصفها الشيطان الأكبر، في تناغم مع آية الله الخميني، زمن التماهي الإسلامو- سياسي التونسي - الإيراني، بأن "المملكة العربية السعودية مهدّدة بثورة الربيع العربي". وتزامن ذلك مع اكتشاف السعوديين الخلايا النائمة لتنظيم الإخوان المسلمين السعوديين، الأمر الذي أدّى إلى انزعاج السلطات السعودية التي اعتبرت تصريح الغنوشي تدخلا سافرا في شؤون دولةٍ أخرى.

وتكرر الموقف نفسه، بالتوازي مع بيان حركة النهضة بشأن اغتيال جمال خاشقجي الذي اعتبره الغنوشي، في خطاب أمام كوادر حزبه، بوعزيزي المملكة العربية السعودية، ما قد يؤدي إلى اندلاع انتفاضة أو ثورة شبيهة بما جرى في تونس، الأمر الذي رأت فيه الحكومة السعودية خروجا عن مبادئ الدبلوماسية التونسية وأدبياتها المعروفة بعدم تدخلها في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، خصوصا أن الغنوشي يقود حزبا في الحكم.
وعلى الرغم من هذه المواقف، فإن الأمين العام لحركة النهضة لم يتردّد في زيارة المملكة العربية السعودية، بوصفه أمينا عاما أو بصفته وزيرا في الحكومة التونسية، ناسيا أو متجاهلا موقف حزبه من جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي، والتي سوقتها منصات التواصل الاجتماعي جريمة دولة، وتعاملت معها دول كثيرة بصفتها تلك، فإذا بحركة النهضة تمارس عكس ما روّجته في صفوف منخرطيها وأنصارها و"الرأي العام الإسلامي" عامّة، وتعود إلى حضن من قتلوا أحد "أعلام الساحة الإعلامية والديمقراطية العربية"، كما وصفته في بيانها. تجد حركة النهضة اليوم نفسها في موقفٍ صعب، يستدعي المبدئية السياسية، بدلا عن البراغماتية التي استحالت، في هذه الحالة، نوعا من الانتهازية، فإما الولاء والبقاء في معسكر الإسلام السياسي، وعاصمته أنقرة، أو الرجوع إلى معسكرها القديم لما قبل 2011 الذي تقوده السعودية، وهو الحلف الإسلامي السني وعاصمته الرياض، والذي ينسجم مع التوجه التقليدي للسياسة الخارجية التونسية، فأي المعسكرين سيختار إسلاميو تونس؟