السودان.. "الإنقاذ" في ذروة محنتها

السودان.. "الإنقاذ" في ذروة محنتها

01 يناير 2019
+ الخط -
ما وصل إليه نظام الإنقاذ في السودان، وما أوصل إليه أحوال البلاد، والعباد، كان متوقعًا، منذ مدةٍ طويلة. وما أكثر ما نصح العقلاءُ من السودانيين، والسودانيات، أهل الإنقاذ، بأن يسيروا في طريقٍ يقود إلى تحوّل ديمقراطي، فلم ينتصحوا. استبشر الناس بالحوار الوطني الذي أعلنته رئاسة الجمهورية قبل بضعة أعوام، وظنّوا أن فيه مخرجًا من الأزمة المتفاقمة، لكن جنون السلطة جعل مركز السلطة، وحواشيها، يسيرون به في غير وجهته، ويُفرغونه من محتواه، ومن معناه. فعادت بعده الأمور إلى مربعها السابق، مع أحوالٍ عامةٍ أكثر تدهورًا. وعمومًا، فقد تميّز أهل الإسلام السياسي، في السودان، بالصلف، والغرور. وهما الصلف والغرور نفسهما الّلذان قاداهم، في عام 1989، وهم قلةٌ قليلة، لينقلبوا على نظام حكمٍ ديمقراطيٍّ، كانوا جزءًا منه، ولهم في برلمانه أكثر من خمسين مقعدًا.
هذا الغرور، وهذا الصلف، هما اللذان خوّلا لهم أن يظنوا، حين ضجّ الناس بالشكوى من اضطراب فترة الديمقراطية الثالثة، (1985 - 1989)، أنْ ليس لإنقاذ البلاد أحد غيرهم، فسمّوا انقلابهم على النظام الديمقراطي "ثورة الإنقاذ". وأصبح "الإنقاذ"، وللسخرية، يعني، إنقاذًا من حكمٍ ديمقراطيٍّ برلمانيٍّ، هم شركاء فيه. ثم ما لبثوا أن جاءوا بما سموه "التمكين" الذي أحلوا به الولاء مكان الكفاءة، في تولي الوظائف في كل أجهزة الدولة، فهدموا جميع أركانها. جرى تسييس القضاء، وانهار حكم القانون، وقُضي، تمامًا، على المؤسّسية، وعلى 
الرقابة على المال العام، وعلى المحاسبية، في كل مرافق الدولة. وانتهى ذلك التخريب الممنهج
 إلى فتح الباب، على مصراعيه، للنهب المفتوح لموارد الدولة، ووضعها في جيوب الإسلاميين، وجيوب المنتفعين من حكمهم. بالتمكين، سيطر الإسلاميون على كل مرافق الاقتصاد. وبالسلطة السياسية سيطروا على القرار السياسي، والقرار التنفيذي. وهكذا أصبح السودان دولةً مختطفةً، بالكامل، لفئةٍ صغيرة، تربط بينها عقيدةٌ دينيةٌ، صوريةٌ، منحرفةٌ، ونهمٌ للسلطة، وللثروةِ، وللجاهِ، لا يعرف الحدود. تُضاف إلى ذلك استهانةٌ لا تعرف الحدود، بأمر معاش الناس، واحتياجاتهم اليومية، الحيوية، من غذاءٍ، وكساءٍ، ومأوى، وعلاج، وتعليم. لقد جسّد إسلاميو السودان، ما تسمى "الدولة الكليبتوقراطية"، في قمةٍ لا تُجارى.
برز هذا النهج، اللامبالي بمعاناة الناس، وتضوّرهم جوعًا، وهلاكهم مرضًا، ونزوحهم الملحمي من الريف إلى المدن، ومن كل أرجاء السودان، إلى خارج البلاد، أوضح ما يكون، في خطاب رئيس الجمهورية قبل أيام، في ولاية الجزيرة. قال إن أصحاب النبي الكريم صبروا على الجوع، وأكلوا أوراق الشجر، غير أن الرئيس عمر البشير نسي أو تناسى أن النبي الكريم كان يقول لآل بيته: يا آل محمد إنكم أول من يجوع، وآخر من يشبع... وكان آل بيته الأتقياء لا يحيدون عن هذا التوجيه، قيد أنملة. يُضاف إلى ذلك أن الأصحاب جاعوا، وجاهدوا، في قضيةٍ جوهرها العدل والإحسان، وإيتاء كل ذي حق حقه. ويعلم كل السودانيين، قاصيهم ودانيهم، أن رئيس الجمهورية، ورهطه، أبعد ما يكونون في مسلكهم، عن مسلك النبي العظيم، وآل بيته وأصحابه الكرام، فلو أن رئيس الجمهورية وقومه عاشوا كما عاش النبي وأصحابه، وضربوا لنا المثل في تحمّل شظف العيش، لحقّ لهم أن يحدّثونا عن أكل أوراق الشجر. وحينها، لن نستنكف في التأسّي بالصحابة الكرام، رضوان الله عليهم.
كل من قرأ التاريخ، ودرس علوم السياسة، يعرف أن وضعًا كالذي ظل الإسلاميون يديرونه، في السودان، قرابة الثلاثين عامًا، مصيره الانهيار الحتمي. بل لقد بدأ هذا المشروع اللغوي الهلامي، المرتكز على الشعارات الجوفاء، في الانهيار، يوم أن بدأ. انهار يوم أن أقرّوا التمكين، وسرّحوا سواد السودانيين من وظائفهم في أجهزة الدولة. وانهار يوم أن تطاولوا على دول الخليج، وعلى دول الجوار، وأظهروا أنهم ليسوا مجرد حركةٍ قُطرية، وإنما هم مدٌّ إسلاميٌّ ثوريٌّ، عابرٌ للأقطار. وانهار يوم أن قتلوا شهيد الظلم والطغيان، مجدي محمد أحمد، بغير حق، بسبب حيازته بضع آلاف من الدولارات، كانت أصلًا في خزينة أسرته. قتلوه، بغيًا وعدوانًا، فقط، ليجعلوا منه عبرةً للآخرين، ولينشروا الخوف وسط الناس. ثم ما لبثوا، هم أنفسهم، أن فتحوا البنوك، والصرافات، لشراء الدولارات، ممن يودّ أن يبيع. ثم أصبحوا، هم؛ أفرادًا وشركات، أكبر من تاجر بالدولار، وباعترافهم، هم، أنفسهم، أخيرًا، فقد شرعوا، في الشهور الأخيرة، يلاحقون من اختاروا من رفقائهم الذين أثروا ثراءً فاحشًا، وخرجوا عن قبضتهم، فأطلقوا عليهم تسمية "القطط السمان"، جاعلين منهم مجرّد كباش فداءٍ رمزية.
أيضًا، انهار مشروعهم، يوم أن شنّوا حربًا دينية على الجنوبيين، مات فيها الملايين، من الجنوبيين والشماليين، مجتمعين. ثم ما لبثوا أن عادوا، فوافقوا على فصل الجنوب، بالتوقيع على بضع وريقات، أعدّها دهاء الغربيين، ووافق عليها الخصمان السودانيان المتصارعان، قصيرا النظر. وانهار مشروعهم، أيضًا، يوم أن قالوا إن فصل الجنوب سيكون خيرًا وبركة على الشمال، وإن الاقتصاد سيكون أفضل مما كان عليه، قبل الانفصال. كما انهار يوم أن تمرّدوا على مرشدهم، فوضعوه على الرف، ثم تفنّنوا في إيذائه، وتكرار حبسه وراء القضبان، واللعب عليه، وعلى من وقفوا في صفه، بمدّ جزرة التئام الشمل، كل حينٍ وآخر. ولكن، لم يلتئم الشمل، قط، إلى أن مات مرشدهم، كظيمًا، محسورًا.
أيضًا، انهار هذا المشروع، حين حوّل إلى الجيوب الخاصة صادرَ الذهب الذي كان مرجوًّا له أن يحل محل صادر البترول الذي فُقد بانفصال الجنوب. كما انهار نظام الإنقاذيين بتسببه في إشعال الحروب في دارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق، وإرهاق ميزانية الدولة الفقيرة، بالصرف على هذه الحروب العبثية. وانهار حين تحوّل النظام إلى لعبةٍ في يد المحاور الإقليمية، تتخطّفه ذات اليمين، وذات الشمال، حتى أصبحت الحكومة السودانية بلا كرامة، وبلا مصداقية، لتصبح مجرد حانوتٍ لشراء موقفٍ ما. وأخيرًا، بلغ قمة انهياره، حين أصبحت الحكومة فاقدةً تمامًا السيطرة على الكتلة النقدية. بل لم تعد الأوراق النقدية، الزائفة التي تطبعها الحكومة، بلا غطاء، قادرةً على حل المشكلة. فقد انكسرت الدورة المصرفية، بحيث أصبحت الأوراق المالية تخرج من يد الدولة، ولا تعود قط إلى البنوك، بسبب الانهيار الكامل للثقة بالبنوك، وبالحكومة.
تضاءل مجمل مشروع إسلاميي السودان، اللغوي، الهلامي، المستعلي، وانكمش، حتى أصبح مجرد جنونٍ بالسلطة، وفتونٍ غليظ بالدنيا، وأعراضها الزائلة. تحولت الأشواق الدينية إلى جنونٍ بتملّك العقار، والشركات، والقصور، في الداخل، والخارج، وبإيداع الأموال، في البنوك الأجنبية. كما تحولت تلك الأشواق الكاذبة إلى هوسٍ بالتفاخر المقزز، في أعراس الأبناء والبنات والأحفاد، وإلى حرصٍ كلوبٍ، على تأمين مستقبلٍ مترفٍ لهم، من أموال الشعب المنهوبة. حوَّل كل ما تقدم ذكره، علاوةً على الصراع الكتيم فيما بين قوى الإنقاذ المتصارعة، والكيد لبعضها، الدولة السودانية، كلها، إلى قوقعةٍ فارغة.

ليس في السودان الآن دولة بالمعنى العلمي، العصري، للكلمة. هناك دولةٌ مفرَّغةٌ من الداخل، خاويةٌ على عروشها. وهناك شعبٌ يُريد استردادها، من نظام حكمٍ فاشلٍ، لكي يعيد إصلاحها، وإعادتها لأداء وظائفها الطبيعية. ولكن، هناك قوى عسكرية، متعدّدة، متشاكسة في حقيقتها، متعاونة في مظهرها، خائفة من بعضها وخائفة من الشعب. تملك هذه القوى أدوات العنف، من كل صنف، وهي لا تزال تظن، فيما يبدو، أنها قادرةٌ على الحؤول بين الشعب، واسترداده تلك القوقعة الفارغة.
أتقن الإسلاميون لعبة شراء الزمن، بلا إنجاز، وبلا مشروعٍ واضح المعالم، وبلا معرفة بالكيفية التي تنهض بها الدول. ظنوا أن لعبة شراء الوقت قابلة للاستدامة. وقد ترسّخ هذا الظن لديهم، أكثر، حين استخدموا القتل لوأد هبة الشعب السوداني في سبتمبر/ أيلول 2013. لكن، ها هو الحقُّ يحصحص من جديد، في ظروفٍ اقتصاديةٍ ومعيشيةٍ هي الأسوأ، منذ قدموا إلى السلطة، مع تظاهراتٍ عارمةٍ اشتعلت هذه المرة، من خارج الخرطوم، وانتظمت المدن الإقليمية الكبيرة، بل وتبعتها في ذلك القرى. فماذا هم فاعلون، يا ترى؟ كم نفسًا بريئةً سيقتلون، علاوة على من قتلوا، ليشتروا بعضًا من الوقت؟ ثم، ما الذي سينجزونه في الوقت المزمع شراؤه؟ بل، هل عاد شراء أي قدرٍ من الوقت، بهذا الأسلوب، ممكنًا؟