هذا من فضل ربي!

هذا من فضل ربي!

31 ديسمبر 2018

آثار في بلدة أم الجمال في البادية الأردنية (Getty)

+ الخط -
Via Nova Trajana.. هكذا كان يسمّي الرومان الطريق التي تمر في البادية الأردنية الشمالية، إلى الشرق من بيتنا في المفرق. كانت هذه الطريق إمبراطورية، شادها أباطرة، ودشنها أباطرة، جاءوا من روما لترويض القبائل العربية المتمرّدة على حكمهم. مررت بتلك الطريق كثيرا، وكل مرة كنت أتخيل عربة الإمبراطور الذهبية، وهي تتقافز على الحجارة المرصوفة، وبقي منها القليل بعد انهيار الإمبراطورية. 
كنت أنطلق مع أخي أحمد بسيارة والدنا "المرسيدس" القديمة في اتجاه الشرق. نقطع الطريق الدولية الحديثة. الوقت عصراً. والدك رجلٌ حريصٌ على أغراضه. خصوصاً سيارته التي قاومت الغبار، الزمن، فريق كرة القدم العائلي وصمدت. يعرف أنكما ذاهبان شرقاً. هذا يعني إلى الصحراء. تحديداً الصحراء التي تختلط فيها الأتربة بالحصى والحجارة البركانية. تقول له: لا تقلق. ستعود السيدة الألمانية العجوز سالمة. يقول: لا تذهبا إلى "الحَرَّة". ترد: لن نذهب اليوم إلى "الحَرَّة". ربما غداً. والدك لا يطمئن. يعرف أن أحمد يسوق بتهوّر. كأنه ينتقم من شيء ما. أنت لا تحسن السياقة على اليمين. يوجه والدك الحديث إلى أحمد: انتبه إلى "الغيارات". لا تنتعها نتعاً. أحمد، الأصغر سنَّاً، أجرأ منك، على ما يبدو، في علاقته بأبيك. فيقول له: خلصنا من هذه الأسطوانة. يكاد والدك يبتسم. ولكنه لا يفعل.
تكونان بعد ثلث ساعة في أم الجمال، البلدة الحديثة تجاور الصروح المنهارة لحلقات حضارية متراكبة، وتتداخل فيها. أنتما، الآن، في أرض قبائل "أهل الجبل" الذين لهم امتداد طبيعي في جنوب سورية (محيط جبل الدروز). يمكن للمرء أن يرى كيف بنى بعض السكان بيوتهم، بعد الاستيطان، من حجارة الآثار البركانية. بيوتات الوجهاء، خصوصاً، مبنيةٌ من حجارة منحوتة قبل نحو ألفي عام... لن يستغرب الزائر رؤية كتابةٍ نبطيةٍ أو إغريقية أو رومانية، لا أحد يعرف من الأهلين معناها، متداخلة في كتاباتٍ نقشت لاحقاً مثل، "هذا من فضل ربي" في حجارة بيوتهم.
من هنا ستبدأ خطاك المتقافزة على طريق التجارة القديم (طريق الملوك، طريق تراجان، الطريق السلطاني، طريق الحج، الطريق الروماني التاسع). هنا الحاضرة الكبرى للسابقين في هذا الصوب. السابقون كثر. أنباط، إغريق، رومان، فرس، بيزنطيون، عرب مسيحيون، عرب مسلمون. تدخلان البلدة قبيل الغروب. يكون من تبقوا من رعاة "جبليين" عائدين بقطعانهم التي لم تعد تشبه ما كانوا يرعونه من قبل. إنها لحظة تعالي الدخان من وراء أسوار بعض البيوت استعداداً للعشاء. للدخان رائحة النباتات البرية التي صارت حطباً، تتخلله رائحة الخبز المسائي. قليلةٌ هي البيوت التي ظلت تخبز استعداداً لعودة الرعاة، فليست هناك قطعان كثيرة. الشبان يفضلون الالتحاق بالجيش. الذين أنهوا تعليماً جامعياً يلتحقون بالوظائف الحكومية في المفرق، أو أبعد قليلا في إربد. أما من ينال وظيفة في عمّان فعليه أن ينتقل إليها. تسمعان رنين جرس "المرياع". الكبش الذي يتقدّم القطيع ويقوده. ثمّة كلابٌ قليلة تنبح. إنها تنبح في اتجاهكما. ماذا يفعل هذان الغريبان اللذان يظللان عيونهم بيديْن مقوّستين، وهما ينظران جهة صروح الأزمنة القديمة؟ راع شاب كان يحشر قطيعه في "الصيرة" الحجرية الملحقة ببيتهم الإسمنتني، يدعوكما إلى الدخول. تقولان له إنكما لن تطيلا المقام. يسأل: من أين جئتما؟ تقولان: من المفرق. وبطريقة غير مباشرة، يريد أن يعرف ما الذي جاء بكما في هذا الوقت إلى البلدة. تعرفان قصد سؤاله المراوغ. تخبرانه أنكما صحافيان. لا يستغرب أهل أم الجمال مجيء أجانب أو فضوليين إلى بلدتهم، فهم يعرفون أنها كانت ذات شأن. رأوا آثاريين أجانب ومحليين بأيديهم أزاميل وخرائط، يحاولون فك غموض الأحجار السود يعودون مرة تلو الأخرى. رأوا بعض الصروح المنهارة يرمم. ينهض من الردم ويستوي على وجه الأرض.
مرة أخرى. عاثت الغزوات حولها فساداً. هل يبرّر ذلك تحولها إلى مركز للاعتكاف الديني المسيحي على المذهب النسطوري؟ سيكون لهذا التحول، إن صحّ، دور مهم في وقت قريب. تكون آخر أيام عز المدينة في الفترة الأموية. الزلازل تطاردها.. تهمد وتنبعث، إلى حد ما، مع تواصل الفتوحات والفتوحات المضادة. تهمل طويلاً. طويلاً جداً. تأتي عليها أيدي البشر اللاحقين. يأخذون حجارتها التي حملت كتاباتٍ نبطيةً، إغريقية، لاتينية، لا يعرفون من أمرها شيئاً ويبنون منها بيوتاً لأنفاسٍ جديدة. "يزربون" بهائمهم في الصروح نفسها. يحوّلون معابدها وبيوتات وجهائها السابقين حظائر. صوامع للحبوب والعلف. الحاجة، لمن لا سقف فوق رؤوسهم تحت سماء عارية، أهم من الرقائم التي تركها بشر طوتهم القرون، كما أن الآلهة المدمدمة، آلهة الحصاد والعاصفة، لم ترفع أصبعاً واحدةً في وجه من حشرها مع العلف والبهائم.
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن