صديقة الصباح وحزنها النبيل

صديقة الصباح وحزنها النبيل

31 ديسمبر 2018

(فاتح المدرس)

+ الخط -
على الرغم من ضآلة حجمها، ونعومة صوتها، ورقتها البالغة، وتهذيبها العالي، فإنها امرأة صلبة جبارة بالمعنى الحرفي للكلمة، بإمكانها أن تعطي دروسا لأعتى الرجال في كيفية الصبر والتحمّل والمكابرة ومواجهة النوائب برفعة وكبرياء. نموذج إنساني فريد، عصي على التكرار، بمقدار كبير من أناقة الروح والبساطة والعفوية والإيثار والثقافة العميقة والإبداع من دون أدنى ادعاء أو استعراض.
كنت محظوظةً بما يكفي، لتضعها الحياة في طريقي صديقةً وفيةً، لا تمل من العطاء، لا يكاد يجمعني بها لقاء صباحي إلا وتمدّني، من دون أن تدري، بطاقة حب وأمل ويقين. نلتقي أحياناً في مقهى صغير، تستقبلني بابتسامتها الطيبة الحنونة. نثرثر في شؤون الدنيا وأحوالها، فيما صوت فيروز يصدح في الأرجاء، منسجماً مع مزاجنا الكلاسيكي الذي يعتبره بعضهم دقّة قديمة. تداري دمعه، تتململ في مآقيها، حين تقول فيروز "يا جبل البعيد خلفك حبايبنا". تقول شيئاً مضحكاً في محاولة تجاهل نوبة الحزن، تقمعني إذا عبرت عن تراجع وكآبة، وتصرّ على أن الحياة حلوة، طالما نتمتع بصحتنا وننعم بفنجان قهوة طازجة، برفقة الأصدقاء المخلصين الذين يؤنسون وحشتنا.
يفرح النادل الشاب لرؤيتنا نحضر مبكّرتيْن مثل العادة، قبل أن ينتهي من إعداد المكان، ويصر على أن يقدم لنا قطع الحلوى ضيافةً من المحل. تغادرني إلى أعمالها، تتغلب بها على إيقاع الزمن الرتيب المضجر، المفخخ بالصور والذكريات. وتتركني في مواجهة الكمبيوتر، كي أكتب مقالة الأسبوع. تتصرف بشكل اعتيادي خالٍ من الانفعال تقريباً، وكأنها لم تفقد، منذ فترة وجيزة، الرجل الذي تحب. التهمه السرطان على مرأى منها، من دون أن تتمكن من فعل شيء، سوى التفاني في خدمته متابعة كل التفاصيل المؤلمة. ترافقه إلى المستشفى، تشاركه لحظات المعاناة الشديدة، وتخفّف عنه، ما استطاعت، بأمومةٍ لم تختبرها، وهي تدرك، في قرارة نفسها، أن المسألة مسألة وقت، لكنها تصرّ على المقاومة والمكابرة، والتشبث ببصيص أمل خافت.
قبل أن يشيع نبأ وفاته، هاتفتني قائلة بصوتٍ بدا لي عاديا، يحمل مشاعر متضاربة، توحي بهول الصدمة. قالت: لقد مات منذ قليل. خيّل لي إنه تحسّن قليلا، قبل أن يغيب عن الوعي تماما، ويأخذوه إلى غرفة الإنعاش. توهّمت أن فريق الأطباء سوف يُسعفه، قبل أن أصطحبه إلى البيت، كي يتعافى من جديد، لكن ذلك لم يحدث، غادر الحياة. هكذا ببساطة، ومن دون ضجيج.. أرادت إنهاء المكالمة، وأنا أحاول جاهدة استيعاب خبر رحيل صديق استثنائي، حضر في حياتنا مثل نسمةٍ رقيقة، لا تكاد تدرك وجودها، على الرغم من إحساسك بعمق تأثيرها، وغادرنا مثل شهاب لمع على نحو خاطف، قبل أن يحتويه الغياب الكلي والمطلق والمجحف. سألتها: ماذا يمكنني أن أفعل من أجلك؟ ردّت باقتضاب بليغ: لا شيء.. مؤجلةً لحظتها الحرّة في التفجع إلى خلوةٍ تبيح لها البكاء على هواها، بعيدا عن الرفاق الذين أحاطوها مواسين، معبرين عن تضامن إنساني وإدراك لحجم خسارتها. التقيتها بعد أيام، وقد انتابتني مشاعر الارتباك والحيرة في كيفية التصرف إزاء فجيعتها، لتفاجئني بتلك الابتسامة الحزينة القوية الرافضة للانكسار، ولتؤكد أنها، على الرغم من كل شيء، تشعر بالامتنان لتلك السنوات القليلة المدهشة التي عاشتها برفقته. ولتطلب فنجان قهوة ساخناً بدون سكر، لنشرب معاً نخب الصديق الذي رحل، مخلفاً في روحها كثيراً من الأسى والوحشة والحزن الصامت المترفع النبيل.

دلالات

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.