عن مؤتمر حاشد يطرق أبواب القدس

عن مؤتمر حاشد يطرق أبواب القدس

29 ديسمبر 2018
+ الخط -
ثار قدرٌ من اللغط حول مؤتمر "نداء إلى المسجد الأقصى" الذي كان مقرّراً أن تستضيفه عمّان بدءاً من يوم 20 ديسمبر/ كانون الأول الحالي. الجهة المولجة بالتنظيم هي وزارة الأوقاف الأردنية، بالتعاون مع لجنة فلسطين النيابية والجمعية الخيرية الهاشمية. أما مصدر اللغط فهو ما صرح به النائب مسعود أبو محفوظ من أن التوجّه هو إلى إلغاء المؤتمر، وليس تأجيله، فيما أعلنت الوزارة أنه تم إرجاء هذا المحفل، وجرى تحديد الأسبوع الأول من إبريل/ نيسان المقبل موعداً جديداً للمؤتمر المزمع.
الفكرة من المؤتمر هي تحشيد أكبر عدد من الشخصيات والهيئات على امتداد العالم، للتضامن في وجه الاستباحة الإسرائيلية للمقدسات الإسلامية، وتأكيد الرعاية الأردنية للمقدسات. وفي نطاق التحضيرات، تم توجيه الدعوات إلى نحو أربعة آلاف شخصية في 120 بلدا، يمثلون هيئات حقوقية ودينية إسلامية ومسيحية، واللافتات الشبابية والنسوية والمهنية والبرلمانية والمؤسسات الإنسانية والإعلاميين والجمعيات الخيريه والإغاثية ورؤساء بعض الجامعات، إضافة إلى الجمعيات المقدسية من كل لون، كما أوضح النائب محفوظ الذي تمتع بصفة
 مستشار للمؤتمر، وبذل جهدا كبيرا في تصنيف المدعووين، والاتصال بهم، وتوجيه الدعوات.
ويُفهم من بيان وزارة الأوقاف أن أسباب التأجيل لوجستية، من أجل استكمال التحضيرات، وتفاديا لأجواء البرد والأمطار، وارتفاع أسعار بطاقات السفر في فترة الأعياد (الأسبوع الأخير من العام). وهي تفسيرات لا تخلو من وجاهة، وكان ينبغي أخذها بالحسبان منذ البداية، فالجميع يعرفون مسبقاً أن هذه الفترة من العام تتميز بانخفاض درجات الحرارة، وارتفاع أسعار بطاقات السفر!
ولم يفسّر محفوظ، في التصريحات المنسوبة إليه، مبعث اعتقاده بأن المؤتمر قد ألغي، ولم يؤجل. وإن يُفهم، من مجمل تصريحاته، استشعاره أن الحماسة الرسمية لتنظيم المؤتمر قد خفتت، لدواعٍ غير معلومة. ويتمنّى المرء أن يكون انطباعه غير دقيق، وقد جانبَ الصواب. وبهذه المناسبة من المهم تسجيل التقديرات التالية:
أولا: عقد مؤتمر حول القدس والمقدسات أمر في الاتجاه الصحيح، ويستحق مباركته، والثناء عليه، علماً أنه يمثل أقل الواجب، وأضعف الإيمان، وليس أعظمه. حتى لو تمخضت عنه بعض الإجراءات، كالقيام ببعض الحملات، وجمع تبرعاتٍ لصيانة الأقصى، وتثبيت المقدسيين على أرضهم، وفي بيوتهم، فالمؤتمر المقرّر أن يحظى برعاية رسمية (ملكية)، ويخضع لتنظيم جهة حكومية، هو محفل شعبي، وليس رسمياً. وبالتالي، هو غير ملزم للدول ولصانعي القرارات، وإن كانت تفاعلاته اللاحقة هنا وهناك سوف تثير الاهتمام، إذا ما اتسمت هذه التفاعلات بالجدّية والديمومة.
ومن الخطأ بالمقدار نفسه تصوير المؤتمر أنه يمثل، بصورة من الصور، "تصعيداً" في الحملة على القرارات الإسرائيلية والأميركية بحق القدس، فمثل هذا المحفل/ التظاهرة لا يمكن تفسيره على أنه ينطوي على تصعيد، إذ إنه من قبيل الحركة تحت سقفٍ منخفض، لا مرتفع، فهو لا يقترن بإجراءاتٍ وتدابير سياسية. وأي تحرّزٍ، في حال وجوده، من تنظيم هذه التظاهرة يبث رسالةً مفادها بأن هناك من يراقب نفسه، ويكبح حقه وواجبه في التعبير عن رفض الإجراءات المتخذة بحق القدس العربية المحتلة، وتمسّكه بحقوقه الثابتة، ما يحفّز المحتل على مواصلة تغوّله، في الوقت الذي لا يكبح فيه المحتلون أنفسهم في الإقدام على كل الإجراءات وأعمال الاستباحة للمدينة المقدسة، ضاربين عرض الحائط بكل القرارات والمواثيق الدولية، وبالوصاية الأردنية على المقدسات.
ثانيا: من المهم تثبيت الموعد الجديد لانعقاد المؤتمر، وتثبيت اسمه "المؤتمر المقدسي الشعبي العالمي في عمّان"، فهذا الاسم ينطوي على أخذ قضية القدس ككل في الاعتبار، ومن ضمنها بالطبع المقدسات، بدل الاقتصار على: نداء الأقصى. إذ إن أي تركيز على المسجد الأقصى بصورة حصرية يعزله عن قضية القدس، ويؤشّر على مسألةٍ دينيةٍ بعينها، بينما التركيز على القدس باعتبارها مدينة، وما يحيط بها، يشمل، بداهةً وحُكماً، المقدسات.

ثالثا: من الواضح حتى تاريخه أن فكرة المؤتمر تدور، أولاً وابتداء، حول المقدسات الإسلامية. وبما سيجعله ذا طابع إسلامي، لاستنهاض مليار مسلم و55 دولة إسلامية، غير أن الأكثر أهميةً، والأكبر قيمةً، هو التركيز على المقدسات جميعها، الإسلامية والمسيحية، في ضوء المخاطر التي تتعرّض لها الكنائس والأوقاف والأملاك المسيحية، ومجمل الوجود المسيحي في القدس. ومن الحصافة، بل من طبيعة الأمور ومنطق الأشياء، أن يكون المؤتمر إسلامياً مسيحيا، وتشارك شخصيات وهيئات مسيحية في الإعداد والتحضير له، جنبا إلى جنب مع الشخصيات والهيئات الإسلامية.. لا أن يقتصر المؤتمر على تطعيمه بوجوهٍ مسيحيةٍ مألوفة. وذلك احتراما للتعدّدية الدينية والاجتماعية للمدينة العربية المقدسة، وللشعب الرازح تحت الاحتلال، ولما لا يستحق من شرح عن أهمية مخاطبة أكثر من ملياري مسيحي في العالم (ضعف عدد المسلمين تقريبا) وفي القارات الست، وللتدليل على أن الكنائس المتصهينة تمثل أقلية لا أغلبية بين مسيحيي العالم.
رابعا: عقد هذا المؤتمر يجب أن لا يخضع لحسابات سياسية ضيقة، وأن لا يمثل، على أي وجه، تيارا سياسيا أو فكرياً بعينه، أو يعمد إلى إقصاء أي تيار، فمثل هذه المناسبات الوطنية الكبيرة فرصة لتظهير الجوامع والمشتركات التي تتعدّى أية حسابات فئوية لدى أي طرف أو جهة. وبهذا الأفق الرحب، يتعين عدم تسييس المؤتمر، بتفادي دفعه في أي اتجاه ضيق، وعدم استثمار أية جهة له لغايات التصدّر أو الإقصاء.
خامسا: من الأهمية بمكان أن يتجند المؤتمر لمخاطبة المجتمع الإنساني الدولي، وأنصار العدالة والسلام والكرامة البشرية في كل مكان، وليس إلى إلهاب مشاعر الأقربين، ومن دأبوا من الأشقاء والأصدقاء على مناصرتنا وتأييدنا. هؤلاء يستحقون الشكر والتقدير، غير أن مخاطبة العالم، على تنوع حساسياته الثقافية والفكرية والعقائدية، يبقى هو "الاختراق" الأهم، وهو الذي يستحق كل العناء المبذول، كما يستحق أن يكون معقد الطموح.
يضع المرء هذه الملاحظات، انسجاماً مع توجّه الجهة الداعية والمنظمة لاستكمال التحضيرات، وتجويدها، وسد الثغرات وملء الفجوات وبلوغ الغايات المنشودة.