طُـغـاةٌ بِلا حـدود

طُـغـاةٌ بِلا حـدود

29 ديسمبر 2018
+ الخط -
(1)
إنْ جرى تقسيم العالم افتراضياً، وبمعايير سياسية واقتصادية واجتماعية، إلى عالمٍ أول متقدم صناعياً هو في العالم الغربي، وعالم ثانٍ تقدمه الصناعي أقل في بلدانٍ، يقع معظمها في القارة الآسيوية، ثمّ عالمٍ ثالثٍ يرزح في الفقر، ويتطلع إلى التقدم والنماء. ذلك عالم تقع ضمنه غالبية بلدان الشرق الأوسط، وبعض بلدان أفريقيا وأميركا اللاتينية، لكن معايير التقسيم تلك قد جرى تجاوزها بمعايير جديدة. إن احترام حقوق الإنسان وحرية الرأي والحق في العيش الكريم معايير تُعتمد للتمايز بين من تقدّم ومن تأخّر. المجتمع الدولي، وبعد ثورة الاتصال ووسائط التواصل المباشر، صار إلى انفتاحٍ يصعب معه على الطغاة أن يحافظوا على تقوقعهم، أو إبقاء مظاهر استبدادهم بعيداً عن الأعين الراصدة.
(2)
لقد توافق المجتمع الدولي على مقرّرات الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتزم به منذ عام 1948، صار معياراً بارزاً ورئيساً لتخلّف الأمم أو تقدمها. انبثقت عن ذلك الإعلان أجهزةٌ وهيئاتٌ ولجانٌ ومجالس ومراصد معنية باحترام هذه الحقوق.
من احترم هذه الحقوق، وجعلها مدخلاً لتحقيق حياة كريمة، فقد تسلق عن جدارةٍ عتبات العالم الأول، ومن سعى مستهدفاً تحسينها، لربما بلغ عتبة العالم الثاني. أما من استخفّ بها أو تجاهلها، فقد بلغ مرتبة العالم الثالث، أو ربما مرتبةً أدنى منها. ليست هي حقوق يكفلها القانون فحسب، ولكنها صارت منظومة أخلاقية وقيما، رسخت في الوجدان الإنساني.
(3)
أنظمة العالم الثالث السياسية هي التي عاثَ فيها الطغاة فساداً لا حدود له، واستبدّ حكامها استبداداً عملوا على حياكته على مقاس طغيانهم وغطرستهم. في هذا الفسطاط، ينمو الاستبداد 
مع غياب الضمير، ويستشري الفساد مع ضياع الذمم، ويمرح القتلة واللصوص والسرّاقون في وضح النهار، بلا وازعٍ من ضمير، ولا احترام لحقوق الناس في الحرية والكرامة. فسطاط الشر هذا الذي يبتنيه الطغاة أفرخ أنظمةً منتنة، نعرف حكامها واحداً بعد واحد. رؤساء صاغت لهم بطاناتهم قوانين تبقيهم على دست الحكم مدى الحياة. أمراء وملوك ورؤساء لم يزحزحهم عن عروشهم إلا الموت الزؤام.
(4)
إذا نظرتم في التاريخ القريب، فإنّ طوابير الطغاة لا تنتهي. من عيدي أمين في أوغندا سبعينات القرن الماضي، مروراً بكاسترو في كوبا، وموغابي في زيمبابوي، وصولاً إلى مسلسل طغاة مواسم الربيع العربي. هنالك زين العابدين بن علي الطاغية الذي فرّ من قصره في تونس، بعد أن هَـرِمَ معارضوه. هنالك القـذافي في ليبيا الذي أفضى به غروره إلى أبشع نهاية، ثـمّ مبارك مصر، ولم تكن أيامه مباركة، فانزوى في سجنه الشخصي مُهملا. هنالك علي صالح في اليمن، والذي انتُهي صلاحهُ برصاصة في رأسه، على نسق رصاص الكاوبوي "ديجانقو".
أقول لكم طوابير الطغاة لا تنتهي. هناك في الشام أسد يتهاوى في عرينه، بعد أن تقرض الأرَضَة عصاه. وفي السودان طاغية، وأيضاً له عصا، يقاوم سقوطه الحتمي، محروساً بمليشيات شرسة وبطانة شرهة، فيما يظل من دون إجابة السؤال الاستنكاري الذي أطلقه الروائي الراحل، الطيب صالح، صداه في صدور السودانيين: من أين أتى هؤلاء؟
(5)
هو العالم الثالث الموبوء بالطغاة المتخلّفين، ونحن في قلبه. أستعجب أن أرى أغنى أبناء القارة الأفريقية، وهو بالمناسبة سوداني الأصل، يطرح جائزة سنوية للحكم الرشيد، يتنافس عليها 
رؤساء القارة الأفريقية. لا يدهشني أن أسمع أن الجائزة، وقيمتها المادية تفوق قيمة جائزة نوبل، تم حجبها سنين عُددا، لأن أياً من رؤساء البلدان الأفريقية لم يتأهل لها أخيرا. مُنحت لرئيسين أو ثلاثة. لعلّ الأنسب، في نظري، أن يبادر هذا الرجل النبيل، بتمويل برامج فعلية، تهدف إلى ترقية أداء الحكومات الأفريقية في مجال احترام حقوق الإنسان، ورفع مستوى الحياة، لترتقي، وتحقق العيش الكريم، وفي بلدان القارة الأفريقية، وأغلبها يرزح تحت وطأة طغاة مستبدين.
(6)
يُكابر أكثر حكّام العالم الثالث أنهم لن يكونوا مثل السلع الاستهلاكية، تنتهي صلاحيتها بتاريخ معيّن، بل هم خالدون في مناصبهم أبدا. أيّ هراءٍ هذا الذي نسمع، من رئيسٍ سودانيٍّ، وقد ناهز الثلاثين عاماً في حكم بلاده، لا يتردّد في توجيه أجهزته الحزبية والتشريعية، لتعدّل له مواد الدستور التي تبيح له الترشح فترات غير محدودة؟ ينظر الرجل غير آبهٍ لطوابير شعبه يقضي الساعات الطوال للحصول على بضعة لترات بنزين من محطة وقود، أو حفنة نقود من مصارف بلا أرصدة، أو حفنة خبزٍ من فرن. .. ما بقي للرجل إلا أن ينصح شعبه، مثلما نصحتْ ماري أنطوانيت شعب فرنسا قبل نحو 250 عاما: إن عزّ الخبز عليكم بالبسكويت.
(7)
ليت الرجل رأى ما فشل فيه في الثلاثين عاماً التي انطوت من حكمه، فيدرك كيف خرج شعبه يطالبه بالتنحّي. ما أظنه في حاجةٍ لمروحية، مثل التي اعتلاها الشاه رضا بهلوي عام 1979 في سماء طهران، فرأى شعب إيران عن بكرة أبيه، يطالبه بالذهاب، فبكى غير مصدّق.
في غيبوبته، لا يرى الطاغية نفسه مثل من كانوا رؤساء من حوله وهلكوا أو أهلكوا، وصاروا قصصاً في التاريخ، تروى بغير أسفٍ. يذهب الطغاة إلى غيابة الجبّ، ولكنهم، لن يكونوا كالنبي يوسف، يُكتب لهم الخروج منه.