محاكمة الثورة في مصر

محاكمة الثورة في مصر

28 ديسمبر 2018
+ الخط -
مشهد سوريالي ذاك الذي نقلته قنوات التلفزة، يوم الأربعاء الماضي، من جلسة محاكمة "اقتحام السجون" في مصر. تواجه فيها الطاغية، حسني مبارك، المخلوع بعد ثورة شعبية عام 2011، مع الرئيس محمد مرسي، الذي جاء محمولا على أكف تلك الثورة، قبل أن يعزله الجيش في انقلاب عسكري عام 2013. المفارقة هنا أن مبارك جيء به إلى المحكمة معزّزاً مكرّماً، شاهدا، في حين كان مرسي، بالكاد يُرى، قابعاً في قفص زجاجي كاتمٍ للصوت، مسيّجاً بالحديد والقضبان. وإن شئت القول، فإن ذلك المشهد السريالي لم يكن إلا اختزالاً قاسياً لسنوات ثمان من عمر ثورة مُضَيَّعَةٍ لم يحسن أهلها الحفاظ عليها.
ما جرى في تلك المحاكمة، كغيرها في مصر منذ الانقلاب، لم يكن محاولةً لإدانة مرسي وجماعة الإخوان المسلمين، فحسب، بل إنها تأتي في سياق مسعىً مدروس لإدانة الثورة، ومن آمن بها ونزل إلى شوارعها. أيضاً، لم يكن مرسي، وآخرون معه من قادة "الإخوان"، وحدهم في قفص الاتهام والبطش، ولكن مصر كلها كانت فيه. ولم يكن عبثاً أن يُسمح لمبارك بالحديث شاهدا، لا مجرما، في حين غُيِّبَ صوت مرسي، وقدم مجرما لا ضحية، فالهدف هو نقض أسس الثورة وإجهاض أي محاولة أخرى قادمة على ظلم أشد فداحة اليوم في مصر.

الصدمة الأكبر في هذه السوريالية أن لا تُرى تعابير تدل على وجود استيعاب بين قوى الثورة في الأمس أن ما يجري من محاكمة لمرسي و"الإخوان" وحلفائهم إنما هي محاكمة للثورة نفسها. أو أنهم قد يكونون مستوعبين ذلك، وهذا هو الأرجح، ولكنهم يعلمون أن إقرارهم بذلك إدانة لهم ولخطاياهم بحق الثورة وشعبهم. الحقيقة المُرَّةُ هنا أن "الدولة العميقة" في مصر تلاعبت بكل قوى الثورة، ومن كل الخلفيات والاتجاهات، وحرّضتهم على بعضهم بعضاً، فكان أن سَهُلَ عليها وأد الثورة، وربما تنجح في إجهاض قيام أخرى في المستقبل القريب، أما المستقبل البعيد فذلك أمر آخر.
في العودة إلى الثورة، وما رافقها وما تلاها، ثمّة أمرٌ ينبغي الاتفاق عليه. أخطأ الجميع في تكييف ما جرى في الثورة المصرية، ومن ثَمَّ أخطأوا في التعامل معه. من حيث المبدأ، كان التحرّك شعبياً فعلاً، وأسبابه واضحة معلومة، وهي ما زالت قائمة، لكن إطاحة مبارك كانت عبر انقلاب عسكري أبيض، أكثر منها استجابة لمطالب الثوار. كانت المؤسسة العسكرية تبحث عن طريقةٍ للتخلص من مبارك وحاشيته الذين أضحوا عبئاً على النظام الحاكم، وجاء التحرّك الشعبي، ليقدّم لهم فرصة ذهبية، ولا شك أن المؤسسة العسكرية استثمرت فيه، وساهمت في توجيه دفته بطريقةٍ أو أخرى. ومن قرأ كتاب "في أيدي العسكر"، الصادر حديثا، لمراسل صحيفة نيويورك تايمز في مصر، خلال سنوات الثورة، ديفيد كيركباتريك، يجد دلائل كثيرة على ذلك، على الرغم من أن هذه الحقيقة معلومة من قبل، وسبق أن كُشِفَ عن كثير من جوانبها في تحقيقاتٍ في صحفٍ أميركية وغيرها.
في سياق خلل التعاطي مع الثورة بناء على خطأ التكييف، نجد أن نشوة "النصر" بإطاحة مبارك في شباط/ فبراير 2011، أسكرت الجميع. مباشرة بعد إرغام مبارك على التنحي انطلقت معركة أخرى عنوانها تقاسم "الغنائم"، رغم أن نظام مبارك، أو "الدولة العميقة"، لم يسقطا فعلاً، والمؤسسة العسكرية التي كانت تقوم بدور المخرج كانت هي من تتحكم بجل
الخيوط. لقد سقطت حينها واجهات مهترئة هَرِمَتْ وشاخت، وبقي الهيكل ومعدنه الصلب في النظام قائما لم يمس. لم يفطن أهل الثورة لذلك، أو أن النشوة أسكرتهم عن تلك الحقيقة. أخطأ الإخوان المسلمون في محاولتهم احتواء الثورة كلها، عبر نتائج انتخابات مجلس الشعب، ثم الرئاسة، عام 2012، والتي صَدَرَتْهُمْ، وظنوا أن هذا يعطيهم اليد العليا في وضع دستور دون توافقات وطنية في بلد كان يمر في مرحلة انتقال تاريخي لمَّا يستقر بعد. ولكن، ما اصطلح على تسميته قوى "المعارضة المدنية" أخطأت هي الأخرى في إنكارها حجم الإخوان الشعبي واعتبارهم نتائج الانتخابات كأنها لم تكن. لقد تنازع الطرفان "كعكة" لم يملكاها حينها، وكان الجيش وأجهزة استخباراته يلعبون بالجميع. وعودة إلى المعلوم، الذي يؤكده كتاب كيركباتريك، فإن الجيش هو من رتب الأحجار على رقعة الشطرنج المصرية، تمهيدا للانقلاب على مرسي، ولم تكن جبهة الإنقاذ وحركة تمرّد، وشخصيات من طراز محمد البرادعي، إلا بيادق، بعضها متواطئ، وآخر منها مخدوع، ولكنها ساهمت جميعها في الانقلاب.
الأدهى هنا أن الانقلاب العسكري على مرسي لم يطح "حكم الإخوان" الذي لم يقم أصلاً، بل كان انقلاباً على ثورة، وإجهاضاً لبارقة أمل أخرى قادمة في المدى المنظور، على الأقل ضمن المعطيات الراهنة. مباشرةً بعد الانقلاب، شرعت المؤسسة العسكرية في التخلص من بعض أدواتها فيه، والتي ظنت نفسها شريكةً، فكان مصير بعضها التهميش، وأخرى السجن، وثالثة التشريد، ورابعة القتل. ثمّ أتبع زعيم الانقلاب، عبد الفتاح السيسي، ذلك بتهميش وإقصاء أي منافسين له من داخل مؤسسة الانقلاب العسكرية نفسها، ليضحي اليوم رئيساً يفوق، في طغيانه وسلطاته وصلاحياته، ما كان عليه من سبقوه من عسكر حكموا بقبضة حديدية، منذ جمال عبد الناصر وانتهاء بمبارك.
باختصار، الاختزال العميق الذي استبطنه مشهد مواجهة مبارك ومرسي في محكمة إدانة الثورة، هي قصة ثورة أكلت أبناءها، وانتهى بها الحال إلى التهام نفسها. تحول مبارك إلى عبء فتخلصت منه "الدولة العميقة"، لكنها حفظت له وِدّاً، على أساس أنه كان واحدا من عناوينها، غير أنه شاخ وفقد فعاليته. أما مرسي فهو تعبير عن ثورةٍ كان يمكن لها أن تجتث أسس الفساد في مصر ومؤسّسته، أو على الأقل زعزعة الأرض من تحت أقدامها، فكان لا بد من أن يكون مثلاً وعبرةً لمن قد يفكّر في تحرك قادم يتحدّى هيمنتها وصولجانها.