انسحاب عسكري وسياسي

انسحاب عسكري وسياسي

28 ديسمبر 2018
+ الخط -
سبق الانسحابَ العسكري الأميركي من سورية الذي أعلنه الرئيس دونالد ترامب انسحابٌ سياسيٌ جرى على مدى سنوات ومراحل، لكن هناك من اختار أن يتجاهله، ويستمر بالمراهنة على دور أميركي في المعادلة السورية الصعبة. مثلت سورية مشكلة استراتيجية، ومثار حيرة لصانع القرار الأميركي منذ قيام الثورة في البلد. مع ازدياد القمع العسكري الذي مارسه النظام السوري، ومع تزايد الطابع المسلح للمعارضة، وقفت إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، تدعو إلى رحيل الرئيس السوري بشار الأسد، لكنها تعجز عن فرض ذلك. في المقابل، وقف حلفاء النظام، وتحديدا روسيا وإيران، معه في كل المراحل، إلى أن سلمت إدارة ترامب لهما دور قيادة العملية السياسية الوحيدة الدائرة بين النظام والمعارضة، مع حضور تركي، يمثل مصالح تركيا لا أميركا.
كان النظام، منذ البداية، واضحا في استراتيجيته التي أرادت للصراع أن يكون بينه وبين سلفيين جهاديين يمارسون العنف بأعلى درجاته، لا بينه وبين الشعب المتطلع للتغيير وحقوق الإنسان. أطلق سراح الإسلاميين من سجونه في الأسابيع الأولى للثورة، وخصوصا الذين كانوا في سجن صيدنايا، وخرجوا ليتزعموا فصائل المعارضة الإسلامية، لكن ذلك لم يكن كافيا. لم تكن الساحة السورية كلها كافيةً لأن تتحقق تلك الاستراتيجية، فجاء البعد العراقي المهم في المعادلة مع الهروب الكبير من سجن أبو غريب قرب بغداد صيف عام 2013، عندما هاجم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) السجن، وحرّر مئاتٍ من أبرز عناصره في عمليةٍ هناك 
شكوك وشبهات تواطؤ بشأن تفاصيلها. كان أوباما وقتها يقترب من التدخل العسكري في سورية، لكن أشباح احتلال العراق ورفض الرأي العام الأميركي، والغربي عموما، أي تدخل مماثل منعت ذلك. شهدت الأسابيع والأشهر التالية تعزيز الهاربين من أبو غريب الجهد العسكري للتنظيم، وصولا إلى احتلال الموصل ومدن عراقية أخرى، وإعلان الخلافة على أراضٍ سورية وعراقية، ليأخذ الصراع بعدا آخر.
في النهاية، جاء التدخل الأميركي في سورية، حينما اختار تنظيم داعش أن يقتل رهائن غربيين، ويعلن ذلك. وكان واضحا أن أميركا أصبحت تقاتل مع إيران في الجبهة نفسها، وأن خطر الجهاديين كان الأكبر على الأمن القومي الأميركي. وشكل ذلك الوضع عاملا غير مباشر ساعد في تشجيع إدارة أوباما على أن تمضي إلى النهاية، من أجل التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران. لنلاحظ هنا أن ترامب كان مصرّا على الانسحاب من الاتفاق، وقد فعل مخالفا حتى أقرب أصدقاء أميركا وحلفائها بريطانيا التي تمسكت بالاتفاق. أما في تصريحاته في تبرير الانسحاب من سورية، فقد قال ترامب إنه تمت هزيمة تنظيم داعش، لكن إشارة أخرى تستحق الاهتمام، وردت في كلامه، قال فيها إن على روسيا وإيران والنظام السوري أن يقاتلوا التنظيم وحدهم.
لم يكن التدخل العسكري الأميركي في سورية مساعدا للمعارضة السورية، لا عسكريا ولا سياسيا، إلا في ما يخص الكرد، وتحديدا جماعة حزب الاتحاد الديمقراطي الذين كان تحالفهم مع الأميركيين، منذ البداية، غريبا ومفاجئا. فلا أيديولوجيتهم الماركسية، ولا ارتباطهم العضوي بحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيا في الغرب يجعلهم حليفا طبيعيا. وهنا لا بد من عدم التعميم في تحليل الجماعات الكردية المختلفة، ففي العراق مثلا، يتمتع الكرد بعلاقات متميزة مع أميركا الملتزمة بحمايتهم، وحماية إقليمهم، ولكن من غير أن يتحول دولةً. ولنتذكر هنا أن أول ضربة جوية أميركية في إطار الحرب على تنظيم داعش حدثت حينما حاول الأخير مهاجمة أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق في أغسطس/ آب عام 2014. أما كرد سورية فقد قاتلوا التنظيم وحدهم أولاً، ثم قررت أميركا التحالف معهم، وهو التحالف الذي أدى إلى امتداد نفوذهم العسكري والسياسي شرقي سورية وشمالها، وهم يترقبون الآن بقلق تداعيات قرار ترامب الانسحاب الذي جعلهم تحت رحمة القرار الاستراتيجي التركي بالتدخل، ومواجهتهم مباشرة في سورية. من المرجح أن يكون خيارهم المقبل تقاربا مع النظام الذي لم يصطدموا معه في مواجهة فعلية، بل على العكس تشاركوا معه الوجود والسيطرة في محافظة الحسكة سنوات.

تبدو قرارات ترامب عصية على التحليل المنطقي، لكن الإشارات التي يمكن تتبعها في جذور قراره هي اختياره ولاية أوهايو، المهمة انتخابيا لأي رئيس أميركي، لإعلان نيته الانسحاب من سورية بسرعة. قال ذلك في مارس/ آذار الماضي لجمهور يعرفه جيدا، ويعرف أنه لا يريد تدخلا عسكريا في الخارج، يدفع الاقتصاد الأميركي ثمنه. مرت أشهر بعد ذلك، خيّل فيها لمساعديه، ولمن يأمل بدور أميركي في سورية أن ترامب غيّر رأيه، ليأتي قرار الانسحاب الشامل والسريع مفاجئا ومخيبا لكل من راهن على دور أميركي في المعادلة السورية المعقدة. أما تداعيات قرار ترامب على الأمن القومي الأميركي، وادّعاؤه الخاطئ بأنه قد هزم تنظيم داعش، فهما مسألتان ستكونان مثار بحث ومراقبة لسنوات مقبلة.
4B109260-05A6-4A15-9F69-C3DBE398FBE4
4B109260-05A6-4A15-9F69-C3DBE398FBE4
رافد جبوري

كاتب وصحفي عراقي، مراسل تلفزيون العربي في واشنطن، له مقالات وبحوث منشورة باللغتين العربية والانكليزية، ماجستير في التاريخ المعاصر والسياسة من جامعة لندن.

رافد جبوري