سطو شعري مسلح

سطو شعري مسلح

27 ديسمبر 2018

(منير الشعراني)

+ الخط -
لي موقف معلن من السرقات الأدبية، وهو الرفض التام لها، على تنوّعها وطرائقها وتسمياتها المختلفة. لكنني على الرغم من هذا الرفض المعلن أراجع موقفي أحيانا عند حالاتٍ معينةٍ، تستحق التوقف ومحاولة التفسير لا التبرير لها. وفي كل مرة أعود إلى ما كنت قد كتبته عن حالات شهيرة من حالات السرقة الأدبية، بطلها الشاعر الفرزدق الذي اشتهر بتلك السرقات، على الرغم من شعريته الفذة، والتي لا يمكن التشكيك فيها، أو التقليل منها، مقارنة بشعرية كل من بادروا إلى سرقاتهم من المعروفين أو المغمورين من الشعراء. وبالتالي، لا يمكن تفسير قيامه بتلك السرقات استنادا إلى عجزه الشعري مثلا، فهل كانت نوعا من الإعجاب المعلن بطريقة غير تقليدية؟
تقول الحكاية إن الشاعر الفرزدق مرّ بابن ميادة الرماح، وهو شاعر مغمور كما يبدو، والناس حوله، وهو ينشد:
لو أن جميع الناس كانوا بربوة/ وجئت بجدي ظالم وابن ظالم
لظلت رقاب الناس خاضعةً لنا/ سجودا على أقدامنا بالجماجم
فلما سمعه الفرزدق، يبدو أنه أعجبه جدا، وقدّر أنه لن يستطيع الإتيان بما يشبهه، على الرغم من شهرته المدوّية، وشاعريته الفذة. وبدلا من إبداء إعجابه، أو حتى غيرته، بالطرق المعتادة، فضل أن يستولي على البيتين بطريقته الخاصة جدا.. لقد قرر الشاعر أن يتحوّل إلى مجرد قاطع طريق محترف، فتصدى لابن ميادة المسكين، قائلا له، كما يقول الخبر الذي يورده أهل النقول في باب الملح والطرائف: "يا ابن الفارسية.. لتدعنّه لي أو أنبش أمك من قبرها".
وطبعا لم يكن أمام ابن ميادة سوى الحرص على أمه ميّادة، أو على ما تبقى منها في قبرها، وتجنب المزيد من الشتائم العنصرية التي يعرف أن الفرزدق، ربما لصراعه النقائضي مع خصمه اللدود جرير، يجيدها أكثر من غيره، فقال للفرزدق: "خذه.. لا بارك الله لك فيه".
فأنشد الفرزدق البيتين بعد ذلك بوقاحةٍ ما بعدها وقاحة، (مفردة "بجاحة" المصرية تبدو أنسب في وصف تصرّفه هذا)، مبدلا باسم جد الرماح اسم جدّه دارم، قائلا: "دارم وابن دارم" بدلا من "ظالم وابن ظالم"، غير مبال بالشهود الذين نقلوا الخبر لاحقا، ولا بدعوة الشاعر الحارقة.
ويبدو أن الفرزدق استمرأ الأمر واستسهله، كما يتضح من الحكاية الثانية، وفيها يمرّ الفرزدق يوما بالشاعر الشمردل، ويسمعه وهو ينشد هذا البيت: "وما بين من لم يعط سمعا وطاعة/ وبين تميم غير حز الغلاصم".
وبدلا من أن يصفّق الفرزدق للشمردل إعجابا، أمسك بخناقه قائلا له: والله لتتركن هذا البيت أو لتتركن عرضك.
فقال الشمردل، الحريص على عرضه أكثر من حرصه على بيت شعري، يستطيع الإتيان بمثله أنى شاء،: "خذه.. على كره مني".
وإذا كان الفرزدق قد تجرأ في الحكايتين السابقتين على شاعرين مغمورين إلى حد ما، فإنه في حكاية ثالثة يتطاول في "إعجابه" المتهوّر هذا على شاعر شهير، هو ذو الرمة الذي سمعه ينشد قصيدةً ما، فلما انتهى، طلب الفرزدق من راويته أن يضمّها إلى شعره، أي أن يرويها على لسانه، على الرغم من محاولات ذي الرمة ثنيه عن ذلك، بقوله؛ "نشدتك الله يا أبا فراس"، فرد الفرزدق بلا مبالاة، وكأن الأمر خرج من يده: "دع ذا عنك"، يعني؛ "خلاص.. لا تحاول.. راحت عليك".
وفي حالةٍ رابعة، سطا الفرزدق على شعرٍ من شاعرٍ يجاريه في المكانة والشهرة، إن لم يكن يفوقه، وهو جميل بثينة الذي أخذه منه بيته السائر: "نسير أمام الناس والناس خلفنا/ وَإنْ نَحنُ أوْمأنا إلى النّاسِ وَقّفُوا". ..
وأعاد تدويره وتحويره قليلا ليصبح: "تَرَى النّاسَ ما سِرْنا يَسِيرُونَ خَلفَنا/ وَإنْ نَحنُ أوْمأنا إلى النّاسِ وَقّفُوا".
ويبدو أن الفرزدق لم يتوقف عن هذا الحد أيضا.. ولا كثيرون غيره.
CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.