حياة في الزنزانة

حياة في الزنزانة

27 ديسمبر 2018
+ الخط -
يتذوقون ألم العذاب، ويشربون مرارة الأيام، ويتجرّعون كؤوس الحرمان. تعريف الألم من وجهه نظرهم أنك لا تستطيع التمييز بين الليل والنهار، إلا عندما تتسلل أشعة الشمس من أحد الجحور، أو عبر النافذة العُلوية لتلك الحجرة الصماء التي يسكُن فيها الجسد، أما الروح، فهي هائمة طائرة في ربوع الوطن.
عذراً، في الزنزانة لا توجد حياة، في الزنزانة تُقتل الأحلام، أنت تُصبح وحيداً، وتُمسي وحيداً، وتنام وحيداً، ولا تجد من تتحدث معه، أو تناقشه، أو تأكل معه، أنت أسير ومحكوم بالإعدام، ويتم زجّك في زنازين العزل الانفرادي عقابا لك ولمجموعة من الأسرى، لأنكم نظمتم إضراباً عن الطعام، للمطالبة بتحسين شروط عبوديتكم، ولتحقيق حريتكم ومطالبكم العادلة داخل السجن الإسرائيلي.
ليست هذه القصة جزءاً من الخيال، بل هي واقع يعيشه آلاف الأسرى الفلسطينيين القابعين خلف القضبان الإسرائيلية، فلا عقل يستطيعُ أن يفسر أن يُحبَّ السجين باب السجان وباب زنزانته وأضلاعها ومركباتها، أشاهدُ وأراقبُ الصدأَ يأكلُ أطرافَ بابها يوما بعد الآخر، الحديدُ يصدأُ وقلبُي ينفطر ولا يصدأُ ينبضُ فكراً، ينبضُ حُباً، يتنفّسُ صبراً، يتأملُ دهراً، لا يقهرُ، عاش للموتِ، والموتُ بعيدُ المنالِ عنه. مات السجانُ، وجاء ابنُه وأيضا مات الآخر، ولم تقفْ عجلةُ الحياةِ على أبوابِ تلك الزنزانة.
تراكمت عبارات الحُب في كل زوايا تلك الزنزانة، تناثرت الأبيات الشعرية والأدبية، تعانقت قصائد نزار قباني مع قضبان شباك الزنزانة، حولتها إلى مستنقع للرومانسية والجمال، اتسع حجمها، وطال نورها، حتى أضاءت كالقمر، هي ليست زنزانة، هي زعفران المدينة، هي رائحة زعتر الجبل، هي حنون القمح والأرض، هي مآذن القدس وكنائسها، هي جرزيم وجبل النار، هي غزة البطولة والفداء.
زنزانة الحياةُ تتكلم ماذا يعني أن تُعاني من الشبح والضرب والعنف الجسدي، ماذا تعرفون عن الموت البطيء والمرض ينهك جسدك، ماذا يعني أن تحلم بالحرية لحظة بلحظة في الصباح، ويتبخر الحلم في المساء، ثم يأتي اليوم التالي، وتبدأ الحلم، في زنزانتي تستيقظ على أصفاد السجان وعلى السلاسل التي تجُرها أقدام الأسرى.
في زنزانتي، أرى وجه أمي الضاحك، فيها أرى وجه ابنتي الباسم، في زنزانتي تتهافت الأرواح وتلتقي، تلك الأرواحُ التي تنتظرُ يومَ ولادتِها من جديدٍ، في ظلِّ حالةٍ فلسطينيةٍ توّحدُها تلك الأرواحُ داخل السجنِ، وتسهرُ على راحتها، وهي تتألمُ، قُرابة سبعة آلافِ قلب ينبضُ في وقتٍ واحدٍ، يصرخُ بالصوت نفسه، يتحمّلُ طريقَ الألم، يسيرُ إلى ما وراءَ الشمس، وخلفَ القمر، لا يعرفون من الأيامِ إلا يومَ يشمّون فيه رائحةَ نسيمِ الحرية، ينتظرون يوماً تُصبح فيه الحرية حقيقة وليست حلُماً.
8981FDE1-0454-4CBC-894E-2351C53A26E0
8981FDE1-0454-4CBC-894E-2351C53A26E0
أشرف أبوخصيوان (فلسطين)
أشرف أبوخصيوان (فلسطين)