ديبلوماسية البوارج في مصر أمام دعوات الإصلاح

ديبلوماسية البوارج في مصر أمام دعوات الإصلاح

26 ديسمبر 2018
+ الخط -
يوجد مصطلح، في السياسة الدولية، يدعى ديبلوماسية البوارج، وهو يستخدم لوصف أسلوبٍ كان يستخدم في العلاقات الدولية قبل القرن العشرين، فقد كانت الدول الكبرى وقتها تلجأ لاستعراض القوة، ومحاصرة سواحل الدول العاجزة عن سداد ديونها، وهناك حوادث تاريخية عديدة شهيرة في ذلك الأمر، منها حربا الأفيون الأولى والثانية، حروب بريطانيا ضد بورما وزنجبار، وغيرها من حروب بسبب الديون في القرن التاسع عشر، وأيضا حصار بريطانيا وألمانيا وإيطاليا سواحل فنزويلا، بعد رفضها دفع الديون عام 1902، ثم تدشين الأسطول الأميركي الأبيض العظيم في 1907، ليمنح الولايات المتحدة السيادة على محيطات كوكب الأرض وبحاره حتى اليوم.
وكان من المعتاد في العلاقات الدولية، وقبل تأسيس الأمم المتحدة عام 1945، أن يكون استعراض القوة، ثم استخدامها، الأسلوب الأوّلي لحل الخلافات، إلى أن تم توقيع اتفاقية دراكو بورتر عام 1907 التي نصت على تجريم استخدام القوة بين الدول، بهدف استرداد الديون المستحقة، ثم كان هناك عصبة الأمم التي حاولت التقليل من الحروب، والتمييز بين الحروب المشروعة وغير المشروعة، وكان هناك أيضا ميثاق بريان كيلوج في العام 1928، والذي حاول التضييق على فكرة استعمال القوة المسلحة في العلاقات الدولية.

مصطلح ديبلوماسية البوارج مرتبط بمصطلح سياسة المساومة الإكراهية، والتي يقصد بها أن يفرض طرف قوي إرادته على الطرف الأضعف، مستعرضا كل قوته وجبروته، ومستخدما سياسة "العصا والجزرة"، فهناك طرفٌ متجبرٌ، لا يرى أهمية في الحوار مع أي طرف آخر. الحوار بالنسبة له هو إملاءاتٌ يلقيها على الطرف الآخر، والتفاوض بالنسبة إليه يعني أن يستحوذ على كل المكاسب، ويرضخ الطرف الثاني من أول جولة، والويل كل الويل لمن يناقش.
نشر مقال مثير للجدل، قبل أيام، في صحيفة المصري اليوم، للأكاديمي عمرو الشوبكي، يقارن فيه بين الخطاب الأخير للرئيس حسني مبارك قبل خلعه، وخطاب الرئيس الفرنسي ماكرون أخيرا مع احتدام مظاهرات السترات الصفراء. وجاء في المقال "يمكن وصف خطاب مبارك الأخير بأنه كان الوحيد الذى حقق جانباً من مبادئ الثورة التي قامت ضده، ويتحمل الإخوان وخطاب المراهقة الثورية مسؤولية أساسية في إفشال مسار الإصلاح من داخل النظام، وكذلك فعل ماكرون، حين قدّم تنازلات عميقة للشارع، هي عكس سياساته، وقدّم خطاباً مؤثراً وقوياً احتراماً للشعب.
وكالعادة، يلقي عمرو الشوبكي اللوم على الضحايا، ويتهمهم بإفشال محاولات الإصلاح من الداخل، وتضييع الفرصة العظيمة التي عرضها مبارك في الخطاب قبل الأخير، الذي عرض فيه البقاء في السلطة ستة أشهر، مع عدم الترشح مرة أخرى. ذكرني ذلك بمقالة كتبها بعد قيام ثورة تونس، وسخونة الأجواء في مصر، عندما كتب مقالاتٍ في بداية شهر يناير/ كانون الثاني 2011، ينفي فيها إمكانية حدوث ثورة في مصر، على غرار الثورة التونسية، لأن "مصر ليست تونس". وذكرتني مقالته تلك بمقالاته التي كتبها في ديسمبر/ كانون الأول 2013، ليبارك القبض على الشباب المعترض على قانون التظاهر، ويصفهم بالمراهقين السياسيين الذين كان عليهم الانتظار، حتى يتشكل البرلمان، ليقوم بتعديل قانون التظاهر وتخفيفه، بدلا من الاعتراض على قانون التظاهر بالتظاهر وإثارة الفوضى.
وعلى الرغم من اقتناعي بوجاهة فكرة الإصلاح من الداخل، وعلى الرغم من اقتناعي بأهمية الأساليب الباردة للتغيير، مثل الانتخابات والمفاوضات والإصلاح من الداخل، بالتوازي مع الأساليب الساخنة، مثل التظاهرات والاعتصامات والطرق الثورية، إلا أن فعالية الأساليب الباردة تتوقف على عوامل كثيرة، منها ضمانات نزاهة العملية الانتخابية، والمساحات المتاحة، ودرجة الحرية في التنظيم، فمفهوم الإصلاح من الداخل في الأنظمة السلطوية القمعية يصبح مجرد شعاراتٍ فارغةٍ من المضمون أو أداة للخداع، أو يتحول نوعا من الابتزاز والإكراه والإجبار في حالة التباين والاختلاف الكبير بين الأطراف، أو اختلاف موازين القوى أو عند تجبر أحد، الطرف الحاكم، وسيطرته على كل مقاليد الأمور. يبشّر عمرو الشوبكي نفسه دوما بأهمية الإصلاح من الداخل، فيما لا يستطيع الحصول على حقه بأن يكون عضوا في البرلمان، ويمارس الإصلاح من الداخل، بسبب بلطجة النائب مرتضى منصور، المعروف بلسانه السليط الذي يرهب به رئيس البرلمان نفسه، بالإضافة إلى بعض الأجهزة في الدولة، فعلى الرغم من فوز عمرو الشوبكي بالمقعد، وعلى الرغم من حكم القضاء بأحقيته بالمقعد، إلا أنه تم إلقاء ذلك الحكم في سلة المهملات، ورفض رئيس البرلمان تنفيذه، فالواقع أن صياح مرتضى منصور ضد كل معارض أكثر أهميةً وقيمةً لدى أجهزة الحكم من تنظيرات عمرو الشوبكي الذي يحاول الحفاظ على معادلة مثقفي السلطة التي كانت ساريةً في عهد مبارك، بأن يتلوّن بعضهم بلون المعارضة اللطيفة، ليجد مكانا في المنتصف بين المؤيدين والمعارضين. اختلف الأمر، فالنظام الحالي لا يثق إلا بمن يؤيد ويطبل ويرقص، لا مكان عنده لمزاعم الإصلاح من الداخل، بل إنه الذي يؤثِر الصمت والابتعاد والانزواء يعتبر محل شك لدى أجهزة النظام، ولن يتركوه لشأنه، أو يسمحوا له بالعيش في أمان، حتى يبدأ التطبيل والنفاق، فمن يحاول تفادي النفاق يعتبرونه مصدر تهديد مستقبلي.

ليس منسيا ما حدث لرئيس الأركان الأسبق، الفريق سامي عنان، عندما حاول الترشح للانتخابات الرئاسية، وكذلك سجن العقيد أحمد قنصوة لمجرد أنه فكر في الترشح، وحبس عبد المنعم أبو الفتوح، وهو رئيس حزب سياسي يشارك في العملية السياسية من داخل المنظومة، ثم اعتقال السفير معتصم مرزوق، ومجموعة من الأكاديميين والشخصيات ذات ثقل، لمجرد أنهم قدموا مبادرة إصلاحية، فديبلوماسية البوارج هي التوصيف الأمثل لما يفعله النظام في مصر، المساومة الإكراهية هي أساس السياسة الداخلية، فلغة القوة هي الأساس، والسجن هو الإجراء المعتاد لكل من يحاول تغيير الأوضاع، ليس فقط لمن يحاول التغيير، وإنما أيضا لكل من يحاول السخرية من السياسات الخاطئة، جعل حياتهم وحياة ذويهم أكثر صعوبة. وعند الخروج من السجن يستمر الانتقام في عقوبات تكميلية، أو إجراءات احترازية، وليس الصمت من الخيارات، فليس الصمت بعاصم عن إعادة الاعتقال. وهناك حالات حبس عديدة بناء على نشاط تم منذ سنوات بأثر رجعي. وحتى دعاة الإصلاح من الداخل، ومن يحاولون الإمساك بالعصا من المنتصف، لن يتم الرضى عنهم، حتى يتحولوا إلى التأييد، والتطبيل الصريح، والدفاع غير المشروط.
مثلما كانت تفعل بوارج الدول العظمى وأساطيلها، عندما تحاصر سواحل الدول الأضعف لإجبارها على دفع الديون، أو تغيير حكوماتها، يفعل النظام المصري الأمر نفسه، عندما يستخدم كل وسائل الإكراه المادي والمعنوي، المشروع وغير المشروع، ضد كل من يعارض أو يحمل رأيا مختلفا. وبذلك تتضاءل ذرائع الإصلاح وتنظيراته من الداخل، وتصبح، في بعض الأحيان، كالحرث في البحر، فالنظام الحاكم لا يرى أن هناك دافعا للإصلاح، لا يوجد ما يستدعي ذلك، فليس هناك أخطاء في ممارسات الشرطة، وليس هناك تعذيبٌ ولا قمع، وكل من يتحدّث عن الفساد والفشل الإداري مغرِض.
ترفض منظومة الحكم في مصر الاعتراف بوجود مشكلة، وترى أن هدف دعوات الإصلاح تدمير المؤسسات القومية، ومن يتحدث عن الإصلاح يعتبر خائنا وعميلا، ويعمل وفقا لتعليمات وأجندات خارجية. ولذلك، لن تكون محاولات الإصلاح من الداخل ذات جدوى كبيرة في الوقت الحالي، على الرغم من اقتناعي، في الوقت نفسه، بأهمية الأساليب الباردة، بالتوازي مع الأساليب الراديكالية، ومع ضرورة استمرار محاولات الإصلاح من الداخل التي تتزامن مع بناء تيار يسعى إلى الديمقراطية.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017