دفاترنا القديمة

دفاترنا القديمة

26 ديسمبر 2018

(معمر مكّي)

+ الخط -
قام شقيقان مصريان بتجربة جميلة وصغيرة، قرّرا أن يضعا في حصّالة ما يتبقى في جيب كل واحد من عملاتٍ نقديةٍ صغيرة، بعد يوم شاق من العمل. وقبل أن يخلدا إلى النوم، يلقي كل واحد بما في جيبه من عملاتٍ نقديةٍ صغيرةٍ، والمعروفة بـ"الفكّة"، في هذه الحصالة.. ثم ينسيا الأمر في الصباح، لتصبح هذه الحصّالة بمثابة دفترهما القديم الذي لا يرجعان له إلى أن امتلأ. وفي أول مرة امتلأ هذا الدفتر، أقصد هذه الحصالة، فتحاها وأحصيا ما فيها من مال، ففوجئا بمبلغ كبير، حصل عليه أحدهما لشراء ما يلزمه من ملابس. وفي المرة الثانية، وبعد عدة أشهر، فتحا دفترهما القديم، وعثرا على مبلغ كبير، حصل عليه الآخر، لشراء جهاز هاتف ذكي حديث.
نعود إلى دفاترنا القديمة، حين نقرّر ذلك، وليس حين نحتاجها، حين تخبرنا أنها امتلأت مثلا كما حدث مع الشقيقين. وقد ردّد آباؤنا مثلا قديما أن التاجر حين يفلس يبحث في دفاتره القديمة عن الزبائن الذين اشتروا من بضاعته، وتبقى من ثمنها مبلغ زهيد، فيبدأ بالبحث عنهم، لاستعادة هذه المبالغ، وربما لم يدفعوا ثمنها إطلاقا، ولم يهتم لأن تجارته رائجة. ولكنه حين شعر بالإفلاس، يلوح على باب رزقه، قرّر أن يبحث في دفاتره القديمة، على الرغم من أن هذا البحث ربما لن يدرّ عليه مالا منسيا، وربما كان مجلبةً للمشكلات والنزاعات، ناهيك عن السخرية من عزيز قومٍ قارب أن يذل.
بحثنا عن دفاترنا القديمة، حين قرّرنا أن نخرج ملابسنا الشتوية الثقيلة، وكلنا أمل في أن نعثر في جيوب السترات والمعاطف على نقود منسية. وهنا تندر رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وهم يسألون بعضهم بعضا عما إذا كانوا قد عثروا على ما يستحق في الجيوب المنسية، والتي رفعت عاما كاملا في الرفوف العلوية، عدا عن المناديل الورقية التي غسلت وجفت، فتحولت إلى كتلة متماسكة، تصعب إزالة آثارها من داخل الجيوب.
ويُجمع علماء النفس على أن الإنسان يعود إلى دفاتر حبه القديمة، حين يفشل في حاضره، مثل الزوج الذي وجد نفسه محاصرا بجيشٍ من الأطفال، فهو يبحث بخياله عن حبيبته القديمة التي كانت تطلّ عليه من شرفة الجيران، وكانت ممشوقة القوام، لكنه يصدم بالقطع، حين يكتشف أنها أصبحت مثله أماً لحفنةٍ من الأطفال، وفقدت قوامها الممشوق، ليتحوّل إلى شكلٍ يشبه الإجاصة، لكنه يعيش في خياله مع صورتها الأولى. أما المرأة التي فشلت في الحب، فهي تبحث بخيالها وواقعها عن حبها الأول، وتتبع أخباره، وتتقصى أمور حياته، ولا تكفّ عن محاولة إعادة المياه الجارية فيما يعرض عنها الحبيب الأول، بعد أن أصبحت له حياته الخاصة. ويبدو أنها تكون قد فشلت، إلى درجة أنها تنسى أن الزمن قد دار، ولم يعد شيئا كما كان.
في دفاتري القديمة، صديقة التقيت بها مرة واحدة وجها لوجه، وجمعتنا لقاءاتٌ كثيرة فوق الورق، يوم أن كان الورق عالمنا الافتراضي لجيل الثمانينات، لكنها عادت بقوة إلى حياتي، عادت لتؤكد لي أن الصداقة الحقيقية لا تموت، لأنها لم تحمل يوما معنى الخذلان. إنها صديقة المرحلة البيضاء من العمر، وحيث الأماني والأحلام، وحيث كل شيء كان قابلا للتحقيق لبساطة الحياة. ولذلك، هي دفتري القديم الذي أقلب أوراقه في الأمسيات وحيدة، وأبتسم لموقف، وأضحك لحادثةٍ روتها لي. أما أوراقها فهي ما زالت في درج حاجياتي الخاصة، كأعز ما أملك، إنها صفحةٌ لا تطوى، ولا يمكن أن يطلق عليها إلا "صندوق الذاكرة".
وفي بيتي، قرّرت أن أضع دفتراً قديماً في درجٍ بعيد عن أيدي الأولاد، ألقي فيه القطع النقدية الصغيرة، لكي أعود إليه، حين تمسك بتلابيبي ضائقةٌ مالية، ولكني فشلت في أن أجعله دفترا قديما منسيا، فقد سطوْت عليه بعد أيام، مع أول شجارٍ بين الأولاد على العملات الصغيرة من أجل المواصلات، ويبدو أن " الفكّة" أصبحت عملةً نادرةً في جيوبنا، وفي جيوب سائقي سيارات الأجرة، إلى درجة أنها لا تصلح في بلادنا لتكون من دفاترنا القديمة.
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.