انتخابات إسرائيلية و"حرب ثقافية" أخرى

انتخابات إسرائيلية و"حرب ثقافية" أخرى

26 ديسمبر 2018
+ الخط -
إسرائيل ذاهبة إلى انتخابات عامة مبكرة جديدة يوم 9 نيسان/ أبريل 2019. ولا يمكن استبعاد جملة أسباب وراء ذلك، كانت وستبقى موضع تداول، في مقدمها ممارسة الضغط على الجهات القانونية المعنية، سيما المستشار القانوني للحكومة، لإرجاء القرار النهائيّ بشأن تقديم لائحة اتهام ضد رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، بشبهة تلقي رشوة. ويمكن ترجيح أن إصدار هذا القرار عقب انتخاباتٍ يسجّل فيها المُشتبه به نصرًا ساحقًا، مثلما تنبئ استطلاعات الرأي العام، سيكون للمستشار أكثر صعوبة مما في فترة نهاية ولاية.
ومن شأن هذه الانتخابات أن ترجئ طرح المبادرة الأميركية لحلّ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والمعروفة إعلاميًا باسم صفقة القرن. وفي حال نشوء حاجة لدى إسرائيل إلى مواجهة تفاصيل عينية في الصفقة، من الأفضل أن يحدث ذلك بعد انتخابات عامة من أن تشكل تلك التفاصيل محورًا لهذه الانتخابات، إذا ما جرت في موعدها القانوني في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.
على المستوى الإسرائيلي الصرف، ستُشكّل هذه الانتخابات حربًا ثقافية داخلية أخرى، تدور رحاها منذ اتفاق أوسلو والانتفاضة الفلسطينية الثانية، على حدّ ما أكّد أيضًا عالم الاجتماع الإسرائيلي، باروخ كيمرلينغ، عام 2002، قبل وفاته بخمسة أعوام. وقد توقّع أن تتشكّل، في نهايتها، مجموعة ذات ثقافة سياسية من المفروض أن تستوطن في قلوب جميع اليهود، وأن تحوّل إسرائيل دولةً يهوديةً تقصي من داخلها ليس "غير اليهود" فقط، وإنما أيضًا كل من وكل ما هو غير مُعرَّف "يهوديا"، وفقًا لرؤيتها وفهمها. وترى هذه الثقافة في الحرب الدائمة ليس فقط شرًّا لا بُدّ منه، وإنما حالة طبيعية، بل وسامية. وتحقّق توقعّه هذا، كما تثبت وقائع كثيرة تراكمت منذ ذلك الوقت.
توقف كيمرلينغ، في حينه، طويلًا عند ما سماها "حرب السور الواقي" التي شنتها إسرائيل على الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2002 إبّان ولاية حكومة الليكود برئاسة أرييل شارون، فرأى أنها تسعى، عمليا، إلى تحقيق حسم استراتيجي مزدوج؛ فالهدف تجاه الخارج تمثّل في تدمير البنية السياسية والمؤسسية الفلسطينية، بينما تحدّد الهدف على صعيد الداخل بموجب قراءته في "تدمير الأسس والمقومات العالمية والإنسانية في المجتمع والثقافة الإسرائيليين. والحرب، بصورة عامة، تشكّل مُناخًا اجتماعيًا مُريحًا لإحداث تغييرات اجتماعية تحت غطاء الضرورة الوجودية". وأي صوتٍ أو تفكير انتقاديين يُنحَّيان جانبًا، بل وينظر إليهما في أحيانٍ كثيرة خيانةً. وفي ظل مثل هذا الوضع، تنمو كالطحالب أفكارٌ تدعو إلى التطهير العرقي، وإلى التطهير الثقافي (الداخليّ). وكلما ازداد اليأس، وتداعى الأمن الشخصي، وأصبح البُعبع الديمغرافي أشدّ خطرًا وتهديدًا، تخرج هذه الأفكار إلى العلن، وتتغلغل من هامش الخطاب إلى مركزه".
ربما علينا الإشارة إلى أن كيمرلينغ ألّف، في تلك الفترة، كتابه "بوليتيسايد"، وهو مصطلح يعني الإبادة السياسية شبيه بمصطلح "جينوسايد" (الإبادة العرقية)، وكان العنوان الثانوي للكتاب "حرب شارون ضد الفلسطينيين".
وسجّل هذا الأكاديميّ أن اليمين الإسرائيلي استطاع بلوغ ما تراءى له نقطةَ تفوّق وحسم، وحذّر من أنه إذا نجح اليمينان، العلماني والديني، بالفعل في إحراز حسم لمصلحته، فهذا سيقود أيضًا إلى محاولة السيطرة مُجدّدًا على كامل مساحة "أرض إسرائيل" (فلسطين الانتدابية). وفي الوقت عينه، على الثقافة السياسية الإسرائيلية. وإذا كان قد خُيِّلَ، في عقد تسعينيات القرن الفائت، أن المجتمع الإسرائيلي أضحى أكثر انفتاحًا وليبرالية وميلًا نحو التعددية الثقافية، وأقل نزعةً عسكرية وقومية، فيمكن القول إن الأمور انقلبت الآن رأسًا على عقب، وإن إسرائيل تسير في طريق التحول إلى مجتمع فاشيّ، يتم فيه التضحية بالفرد وحقوقه الأساسية، من أجل أفكار جماعية آثمة يمكن لها أن تقود إلى التهلكة.
وما يحدث الآن هو إلى حدّ كبير ما أتى عليه هذا التحذير.