الثقافة حريةً.. الثقافة سجناً

الثقافة حريةً.. الثقافة سجناً

26 ديسمبر 2018

(محمد العامري)

+ الخط -
تقع الثقافة بين نظرتين، اتصالية وانفصالية. تعتبر الأولى الثقافة وسيلة اتصالٍ توظف لإنجاز علاقةٍ متوازنةٍ ومتساويةٍ مع آخرين يشبهوننا، ولهم القيمة نفسها التي نحملها عن أنفسنا، بحيث تُضيّق دائرة الخلاف بين البشر، حتى لو حملوا هوياتٍ مختلفة. الثانية انفصالية، تعتمد على الهوية الجزئية لإنجاز انفصالٍ عن آخرين، لا ينتمون إلى دائرة الهويات التي ننتمي لها. الأولى، نظرة توسع من شبكة العلاقات، وتشدها إلى أفق مفتوح ومتوازن. والثانية تغلق على الذات، وتنجز أسوارا عالية مع الآخرين. بين الأفق الإنساني الواسع والجامع واعتبار الهويات دليل غنى وتنوع، وبين كونها أداة انعزال تسجن الذات وتعادي الآخر، تنوس الثقافة بوصفها مفهوما في غاية الغموض.
يمكن إحالة معظم الصعوبات التي يواجهها البشر في التعامل مع بعضهم بعضا إلى الانحرافات في التواصل، أو فقدان هذا التواصل من خلال الاعتماد على ثقافةٍ تُعلي من الجزئي على حساب الكلي. في حياتنا اليومية، هناك سلوكياتٌ كثيرة، نجد البشر عالقين فيها، وتتحول إلى سلوك نمطي، من دون أن يدركوا ذلك، لكن هذه الممارسة الحياتية تأتي من خلفيةٍ ثقافيةٍ ذات طبيعةٍ مغلقة، وهي ما يمكن تسميتها "ثقافة السجن". إنها في الحقيقة سجن حقيقي، لأن من يعيش داخلها لا يعرف أنه يوجد مفتاح لفتح قفل سجنه. إذا كان من الصحيح أن الثقافة تقيّد البشر بعدة طرق، فإن التقييد الذي تمارسه الثقافة يمكن أن يذهب في اتجاهاتٍ متناقضة، فالبشر يستطيعون تطوير الثقافة بوصفها وسيلةً لخنق أنفسهم، كما يمكنهم تطويرها وسيلة للعيش المشترك، ولفتح أفق إنساني لبناء الصلات مع الآخرين، لا لقطعها.
إن فهما حقيقيا للثقافة يجب أن يعيد إنتاج الحياة، بوصفها وسيلةً للتواصل بين البشر، وأن يساعدهم على اكتشاف أنفسهم، وتنمية صلاتٍ غنية بينهم، يرون الجامع والمشترك، ويمتنعون عن النظر إلى الآخرين الشركاء في العالم، أو في الوطن، أو في المدينة، أو في المجتمع، 
بوصفهم متآمرين عليهم، يريدون التخلص منهم، بل النظر إليهم بوصفهم شركاء في معايير وقيم وحقوق وواجبات كثيرة. على الرغم من التمايزات الخاصة لكل فرد من انتماءاتٍ وهوياتٍ جزئية، ليس بالضرورة بناء هذه التمايزات، بالضد من هذا المشترك. وهذا هو الفرق بين أن تكون الهويات الجزئية من مظاهر التنوع وأن يتم توظيفها لإنتاج العنف والتعصب، على اعتبار أنها هوياتٌ نهائيةٌ ومتاريسُ لا بد منها من أجل مواجهة الآخرين الذين يترصدون بنا بالسلاح.
يمكن القول إن الثقافة هي الإنسان، بمعناه الواسع، فهي تشكل الصلة بين البشر والوسيلة التي يجب أن يتفاعلوا بها مع بعضهم. القيمة الثمينة لحياة الإنسان هي نتيجة للملايين من التمازجات الممكنة المتضمنة في ثقافة متعدّدة. لكن هذه المقاربة ليست المقاربة الوحيدة للثقافة. هناك المقاربة "الانعزالية" التي يمكن أن تكون طريقةً لإساءة فهم كل شخص في العالم. إننا في حياتنا العادية نرى أنفسنا أعضاء لعدد متنوع من الجماعات، ونحن ننتمي إلى كل هذه الجماعات في آن، كأن يكون واحدُنا، من بلد معين، ومن دين معين، وينتمي إلى حزب معين، ويمارس مهنةً معينة، ويشجع ناديا رياضيا معينا، وهو شخص ليبرالي مناصر لقضايا حقوق الإنسان. ويمكن اختزال هذا الغنى، وتعريض إنسانيتنا المشتركة لتحدياتٍ وحشية، عندما يحشر بعضنا بعضا في قوالب تصنيف مزعومة ووهمية، تعتمد على هويةٍ جزئية. إن صراعات دموية كثيرة تتغذّى على وهم هويةٍ متفردةٍ نقيّةٍ، لا يتشارك فيها الآخرون معنا.
و"فن بناء الكراهية"، كما يقول الهندي أمارتيا صن، يأخذ شكل إثارة القوى السحرية هوية مزعومة السيادة والهيمنة، تحجب كل الانتماءات الأخرى. تعطي هذه الهوية شكلا ملائما ميالا إلى القتال، حيث يهزم أي تعاطف إنساني، أو مشاعر شفقة فطرية قد تكون موجودةً في نفوسنا بشكل طبيعي. ومن الصحيح أيضا، كما يقول صن نفسه، أن العنف ينتج عن "الآثار المروعة لتصغير الناس"، أو بالأصح لتصغير الآخر المختلف والشريك في العالم والوطن والمدينة وحتى الحي. والقواعد التي يقوم عليها الحطّ من قدر الآخرين، لا تتضمن فقط المزاعم المغلوطة، ولكن أيضا الوهم بأن هويةً مفردةً يجب أن يربطها الآخرون بالشخص، لكي يحطوا من قدره. لذلك يمكن للهوية أن تقتل وبلا رحمة. ففي حالات كثيرة، يمكن لشعور قويٍّ بانتماء يقتصر على جماعة واحدة، أن يحمل معه إدراكا لمسافة البعد والاختلاف عن الجماعات الأخرى، فالتضامن الداخلي لجماعةٍ ما يمكن أن يغذّي التنافر بينها وبين الجماعات الأخرى، ويتم تصعيده إلى مستوى القتل.

الصلات بين الثقافة والحقل السياسي وثيقة جدا، كذلك الصلة بين التعصب الثقافي الأعمى والطغيان السياسي وثيقة جدا أيضا، خصوصا في المجتمعات التي تعاني من سلطات شمولية، وتنعدم فيها الحرية. يعتمد الطغيان على التعصب الأعمى على أساس هوياتٍ جزئية، ويتمترس وراءه خندق دفاع عن المصالح. وتستثمر السلطات هذا التحيز الأعمى، وتتخذه ذريعةً لتبرير فشل أجهزة حكمها في إنجاز مهماتها على الوجه الطبيعي. في ظل هذه الشروط، كل شيء يدفع باتجاه العنف الذي يختزل البشر إلى بعد أحادي، ويحجب أبعادهم الأخرى التي تجمعه معهم. هذه الرؤية الأحادية للآخر متخلفة وعدوانية وإلغائية، تضع الجماعات البشرية على طريق صراعٍ دموي واضح المعالم.
إذا كانت "الثقافة ليست ما نحيا به وحسب، فهي أيضا ما نحيا لأجله"، وإذا كان "من الممكن للثقافة أيضا أن تكون مخيفة ومرعبة"، كما يقول أيغلتون، فإننا نقول معه أيضا إن الثقافة التي اكتسبت أهمية سياسية جديدة غدت، في الوقت ذاته، أبعد عن التواضع، وأقرب إلى الغطرسة. وقد حان وقت إعادتها إلى مكانها المناسب، وسيلة للتواصل الايجابي بين البشر، ليس على المستوى العالمي فحسب، بل وفي الحيز المحلي أيضا.

دلالات

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.