أميركا ترسّخ إيران في سورية

أميركا ترسّخ إيران في سورية

25 ديسمبر 2018
+ الخط -
من المفارقة وضع انسحاب أحد الأطراف المحتلة لسورية في خانة المصائب التي تنتظر هذا البلد المنكوب، ذلك أن الوجود الأميركي في سورية، وعلى الرغم من كل مساوئه، يظل العامل الوحيد لتحقيق توازن، مهما كان هشّاً، في مواجهة التغولات الروسية والإيرانية، في غياب الأمم المتحدة، أو أي طرف دولي فاعل. ومن المفارقة أيضاً تزامن الإعلان عن قرار الانسحاب الأميركي مع وعيد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بشن حربٍ لا هوادة فيها على الفصائل في سورية، وتفاخره بتدمير الكتلة الأساسية من المسلحين، وكذلك محاولة روسيا تلفيق تركيبة للجنة الدستورية التي على أساسها سيقول الروس للعالم: لقد نفذنا كل الاستحقاقات المطلوبة منا، فنفذوا أنتم التزاماتكم. 
يضرب قرار الانسحاب الأميركي كل الرهانات على إمكانية تحقيق أي توازن محتمل لصياغة تسوية للأوضاع السياسية، فسيلغي هذا الانسحاب أي دافعٍ أو محفّز للطرف الآخر، من أجل السير في طريق هذه التسوية، وعندما تكمل أميركا انسحابها من مناطق شرق الفرات، فإنها بذلك ستكون قد تحوّلت إلى طرف هامشي بدون أي فاعلية، سوى المساومة على ورقة إعادة الإعمار، وهو أمر غير مضمون بدوره مع شخص مثل رئيس الإدارة الأميركية، دونالد ترامب، الذي يتبدل ويتغير في كل لحظة.
ليست معلومة الأسباب التي دفعت إدارة ترامب إلى اتخاذ هذا القرار المفاجئ، ولا طبيعة التقديرات التي أوصت به، غير أن متابعة ما يصدر عن الإدارة الأميركية في المرحلة السابقة كان يوحي بأن إستراتيجية ترامب السورية قد تبلورت واتضحت آلياتها وأهدافها، كما أن وزارة الدفاع زادت، في الشهور الأخيرة، من أصول أميركا العسكرية في مناطق شرق الفرات، وقد رسخ ذلك القناعة لدى المهتمين بأن هذه الإستراتيجية ستستقر سنوات طويلة، وستكون أحد عناوين الأوضاع في الشرق الأوسط، وأنها ستضغط على روسيا، من أجل التوصل إلى تسوية سياسية حقيقية.

هل فاضلت إدارة ترامب علاقاتها بتركيا عن وجودها في شرق سورية؟ ربما، وخصوصا بعد الإعلان عن صفقة صواريخ باتريوت بين الطرفين. وهل وعدت تركيا في مقابل ذلك بتخفيف علاقاتها مع روسيا؟ لا يمكن القفز إلى جواب في هذا الإطار بسبب تشابك العلاقات بين تركيا وروسيا وتعقدها، وخصوصا في المجالات الاقتصادية، الاستثمارية والتجارية.
لكن المؤكد تخلي تركيا عن أهدافها الأساسية في سورية، إلى درجة أنها باتت تلعب في سورية وفق القواعد التي حدّدها بوتين، وحصرت أولوياتها في إطار محاربة حزب العمال الكردستاني، ومنع تشكيله قاعدة تجميع وإنطلاق في سورية، لما لذلك من تأثير، وفق التقديرات التركية، على المصالح الأمنية لأنقرة.
هل يتساوق قرار الانسحاب الأميركي مع مشروع إعادة تأهيل بشار الأسد، الذي يبدو أنه وضع على الطاولة بعد صدور مؤشرات عربية ودولية في هذا الاتجاه، خصوصا أن الدبلوماسية الأميركية أكدت أخيرا، وفي أكثر من مناسبة، أن واشنطن غير معنية بتغيير النظام، وهو ما يمنح اللاعبين الآخرين حرية السير في هذا السياق؟
وهل اقتنعت تركيا، وحسمت المفاضلة بين تأهيل بشار، واستعادته السلطة على كامل الأراضي السورية، والرهان على إسقاطه الذي لم يعد مضموناً بسبب سيطرة روسيا على الأوضاع في سورية؟ التوافق بين أنقرة وموسكو على صعيد أكثر من ملف يؤيد هذا الافتراض، كما أن كلام رئيس الوزراء التركي، جاويش أوغلو، عن احتمال إعادة العلاقات مع نظام الأسد، في حال حصول انتخابات ديمقراطية، مؤشر على تغييرات جذرية في الموقف التركي. وهذا ما يحيل إلى سؤال آخر: ما هو مصير المناطق التي ستخرج أميركا منها، هل يجري تسليمها لنظام الأسد، أم ستتشكل فيها إدارات مستقلة، أم أن الأتراك سيضمونها للأراضي التي يسيطرون عليها في غرب الفرات، الرّقة وريفها الشمالي والريف الشرقي لدير الزور، وهي المناطق ذات الأكثرية العربية؟ والمعلوم أن هذه المنطقة تحتوي معظم إنتاج سورية من النفط والغاز، فضلاً عن أنها أكبر مصدر للمياه في سورية.

ولعل السؤال الأهم في هذا السياق يتعلق بالوجود الإيراني ومصيره في هذه المنطقة الحساسة، حيث تتعامل إيران مع هذه المنطقة بوصفها منطقة نفوذ مستقبليةٍ مهمة، وقد حوّلت البوكمال وريفها إلى مركز لانطلاق عملياتها المستقبلية، وخصوصا على مستوى التشييع وتغيير التركيبة الديمغرافية في الجزيرة السورية، وقد أسست مليشيات عديدة من أبناء المنطقة، وقامت بتشييع أبناء العشائر، وخصوصا العشائر التي تنتمي لآل البيت، وهي، للمصادفة، كثيرة في هذه المنطقة، وتملك إيران قدرات لوجستية هائلة هناك، مع وجود طرق برية مباشرة بين طهران وشرق سورية، واستقرار مليشيات الحشد الشعبي العراقية في المناطق المقابلة للجزيرة السورية.
على ذلك، كل ما فعلته إدارة ترامب، في المرحلة السابقة، هو جعل إيران ترسخ نفسها قوّة مؤهلة للسيطرة على منطقة شرق الفرات بعد خروج هذه الإدارة، ويبدو أن إيران التي بات لديها خبرة بالنزق الأميركي، وسرعة التملص من الالتزامات، قد جهّزت نفسها جيداً لهذا اليوم.
قرار الانسحاب الأميركي سيحوّل سورية بالفعل إلى مستنقع للإرهاب تمارسه مليشيات الأسد بمساعدة روسيا وإيران. لا يعرف هذه الحقيقة إلا السوريون الذين استعاد نظام الأسد السلطة عليهم، حيث بلغت استباحة آدميتهم والاستهتار بحياتهم حداً لا يمكن لعقل آدمي تصوّره، وهذا بوتين يتوعد السوريين بالويل والثبور، ويتباهى بقضائه على المعارضة، وينسى أنه يطرح نفسه أمام العالم وسيطا وضامنا، ويتشدق وزير خارجيته، سيرغي لافروف، بالمصالحة بين السوريين!
5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".