أدونيس مثقفاً "عضوياً"

أدونيس مثقفاً "عضوياً"

25 ديسمبر 2018
+ الخط -
يعيد الشاعر أدونيس، في مقابلة جديدة له على قناة الميادين، تحليله للواقع السوري، فيرى، على الرغم من قوله عن عدم قدرته على إبداء الرأي، بسبب وجوده خارج سورية لا داخلها، ما لا يسمح له برؤية الواقع على حقيقته، (وكأنَّ الإعلام اليوم متخلِّف، وغير قادر على إيصال أيّ خبر أو معلومة إلى أبعد نقطة في العالم لحظة حدوثهما)، وعلى الرغم من هذه الواقعية الميكانيكية التي تتناقض مع أسلوب عمل أيِّ مثقف ذي عقل، تمكنه ثورة المعلومات اليوم من الوصول إلى الحدث، وقراءته من جوانبه كافة، وبالتالي من تحليله، ومحاكمته بمقارنته بغيره، ومن ثمَّ استخلاص الأدق والأقرب إلى الصحة والمنطق السليم.. أقول على الرغم من هذا وذاك، يجيب أدونيس مذيعة قناة الميادين قائلاً: 
يجب ألا تحاكم الحال السورية من خلال نظام الحكم فقط، (وليته فسَّر ما يعنيه، وإنْ بإشارة عابرة إلى "داعش" مثلاً، أو إلى بعض الفصائل المسلحة المماثلة). لكنه، لم يفعل، بل قال: إنّ سورية شيء، والنظام السوري شيء آخر تماماً. ويجب النظر إلى جوهر ما جرى وما يجري، من خلال الحال السورية ككل، وعبر تركيبة الشعب السوري بكامله، لا من خلال النظام السياسي فحسب.. فجذر المشكلة سوري/ مجتمعي، لا نظام سياسي..
وعلى ذلك، فإنَّ فكرة أدونيس، في عمقها وأبعادها، تقود إلى تحميل الشعب مسؤولية ما جرى، وتنزيه الحاكم عنه بالمطلق. وإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ مجتمعات عربية كثيرة مسؤولة عما جرى في بلدانها من هزائم، وتقهقر، ومن تخلُّف وعجز عن اللحاق بركب الحضارة.. 
والسياسي بريء من ذلك، إذ هو يعبِّر عن واقع مجتمعه، لا أكثر. وبمعنى من المعاني، إنه كما يقال: "كما تكونوا يولّ عليكم". ما يعني بالوضوح كله أن أدونيس شطّب على كل ما قالت به الملايين التي خرجت بمظاهرات سلمية، وعلى ما أعلنته من مطالب، وحقوق ينصّ عليها الدستور السوري القديم نفسه. وعلى الرغم من أنَّه أشار، في بداية حديثه، إلى وجوب أن تكون الدولة السورية المقبلة "مدنية ديمقراطية تعدّدية"، (للعلم نحن على أبواب الترشيح لجائزة نوبل الأدبية)، وألا تكون كلمة "عربية" في ثنايا اسمها، لئلا يُنتقص من حقوق الفئات القومية الأقل عدداً، وحتى لا يُفهم منها أنَّ للعرب ميزة على الأقوام الأخرى المكوِّنة للشعب السوري. ومع ذلك، انتقد الشعارات التي رفعها المحتجون السوريون في بداية العام 2011، وخصوصا الشعار المتعلق بإسقاط النظام، والذي ما جاء إلا بعد أنْ يئس المحتجون من النظام، وبعد أن رفض الأخير إجراء أيّ إصلاح فعلي، وبعد أن واجههم، أيضاً، بالرصاص الحي، عبر الجيش السوري "الباسل" الذي استقبله المتظاهرون بالورود في أكثر من مدينة وبلدة!
يعرف أدونيس تماماً أنَّ شعارات المحتجين ما أتت إلا نتيجة طبيعية لعجز النظام عن حلِّ مشكلاته المتعلقة بالفساد، والتوغل الأمني، وبانعدام الديمقراطية، وقمع الرأي، وغياب الصحافة الحرّة، وتشابك السلطات، وحالة الطوارئ التي استمرت خمسين عاماً. وقبل كل هذه المشكلات، وقف التنمية وزيادة البطالة، خصوصاً بين الخريجين، وتراجع التعليم. تلك المشكلات التي كان الشعب يعانيها، ويناقشها داخل المؤسسات الحزبية والنقابية، وتعكسها صحافة الدولة بقدر ما يسمح به "الهامش الديمقراطي"، وبقدر التحايل الذي يستطيع الصحافي من خلاله أن يزوِّق كلمته، رغبة بإيصالها ناعمة غير معكِّرة مزاج الحاكم لتأتي، في النهاية، أقرب إلى الدعاء الذي يُراد منه التقدّم من سيادته للتكرم على الشعب، فيمنَّ عليه ببعض العطايا.
أدونيس، كما هو واضح مما قاله، يطالب الشعب السوري بأن يرتقي بنفسه أولاً، وألا يتوجه إلى إسقاط النظام، فالمشكلة ليست في النظام، بل هي في الشعب نفسه، وفي الحالة السورية كلها! ولكن ما هي الحال السورية بالضبط؟ لم يُفصح أدونيس عنها، بل اكتفى بنفي مسؤولية النظام عما جرى، وخطأ المحتجين برفع شعار إسقاط النظام.

أما الأمر الآخر الذي رآه أدونيس، فاعترافه بمعارضة الداخل فحسب، (ولا أعرف ما إذا كان مسموحا لمعارضة الداخل أن تعبر عن رأيها بصراحة، ثمَّ إن الذين توزعوا في أطراف الأرض ألم يكونوا من معارضة الداخل.. وهل خرجوا من مدنهم وبلداتهم سياحة؟). قد نوافق أدونيس لو أن عدد هؤلاء كان بالعشرات أو بالآلاف وحتى بعشرات الآلاف وبمئاتها أيضاً، لكن، وقد وصل العدد إلى الملايين الثمانية، وربما أكثر، فليسمح لنا أن نقول شيئاً له عنهم، كونه غير موجود في الداخل:
كثيرون خرجوا خوفاً من الاعتقال والتعذيب فالتصفية. الأغلبية الساحقة منهم خرجوا إلى المخيمات في الأردن ولبنان وتركيا، لأنَّ البراميل المتفجرة للنظام السوري الذي "لا ينبغي رفع شعار إسقاطه"، كما يرى "مثقفنا الكبير"، قد هدمت بيوتهم، وقتلت أحبابهم، ما أجبرهم على النزوح أو الهجرة. وقد زادت من أعداد المهجرين الأسلحة الروسية الحديثة التي استخدمت للقتل أولاً، ثم للاستعراض، والتجربة، ولتعريف زبائنها بقدراتها التدميرية وبفعاليتها التي لا تضاهى! وقد حصل ذلك، بحسب بوتين بالذات.
وقد وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في سبتمبر/ أيلول الماضي، أي بمناسبة مرور ثلاث سنوات على وجود الروس، مقتل 6239 مدنياً من بينهم 1804 أطفال على يد القوات الروسية، منذ تدخلها في سورية. كما وثقت، خلال تلك الفترة، ما لا يقل عن 321 مجزرة نفذتها القوات الروسية، وما لا يقل عن 954 حادثة اعتداء على مراكز حيوية مدنية، من بينها 176 على مدارس و166 على منشآت طبية، إضافة إلى 55 اعتداء على أسواق، وفق أحدث التقارير التي أفادت بأن روسيا نفذت 232 هجوماً بالقنابل والذخائر العنقودية، إضافة إلى 125 هجوماً بأسلحة حارقة. وقتلت القوات الروسية 92 من الكوادر الطبية، ومن عناصر الدفاع المدني، إضافة إلى مقتل 19 من الكوادر الإعلامية. وأكد تقرير الشبكة أن روسيا "خرقت في شكل لا يقبل التشكيك" قراري مجلس الأمن 2139 و2254، القاضيين بوقف الهجمات العشوائية، و"انتهكت عبر جريمة القتل العمد" المادتين السابعة والثامنة من قانون روما، موضحا أن القصف استهدف أفراداً مدنيين عزّلا، ما يشكل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وللعلم، من بين الذين هاجروا أعداد كبيرة من الأجيال الذين هم في سن الخدمة الإلزامية، وقد هاجروا فراراً من الحرب الآثمة التي شنها النظام على شعبه، ويحتج أدونيس على شعار إسقاطه. وقد هاجر هؤلاء الشباب، لأنهم لا يريدون قتل إخوتهم، إذ يدركون، بعفويتهم، أنها حرب لا وطنية، إنما غايتها، في نهاية المطاف، تدمير لسورية ومقدراتها خدمة لأعداء سورية كائناً من كانوا.
1D1ED1EA-2F95-436E-9B0D-9EA13686FACD
محمود الوهب

كاتب وصحفي وقاص سوري، له عدد من المؤلفات والمجموعات القصصية