في إخفاق رهان الاتحاد المغاربي

في إخفاق رهان الاتحاد المغاربي

24 ديسمبر 2018
+ الخط -
لا شك في أن رهان تجسيد الاتحاد المغاربي حقيقة، ومؤسسات فاعلة في الواقع وفي حياة الناس، أخفق بشكل واضح ومؤلم، فعلى الرغم من كل المحاولات والمساعي التي بذلت لتخطي هذا الوضع الجامد والشاذ، فإن المشهد نفسه ظل سائدا وصامدا في وجه طموحات الشعوب التي لم تتوقف عن المطالبة بقيام هذا الصرح، ووضع الصراعات السياسية والحساسيات ذات البعد الثنائي جانبا، لأنها تدرك جيدا أن مستقبلها ومصيرها مرتبطان بتحقيق الاندماج والتعاون وحرية تنقل الأشخاص ورؤوس الأموال في كل الاتجاهات، بما يسهم في انبثاق فضاء اقتصادي، من شأنه أن يشكل قوة دفع لاقتصاديات الدول المغاربية، ويؤمن شروط الاستقرار السياسي والاجتماعي، ويقف سدا منيعا في وجه الحركات الإرهابية والانفصالية، ومختلف أشكال اليأس والتفكير العدمي.
من المسلم به أن الطريق إلى هذا المبتغى كان دائما محفوفا بالتوجس، وكل مبادرة تطلق في الاتجاه الإيجابي تصطدم بإكراهات ومقاومات غير قابلة للتفسير المنطقي والفهم السليم. وهذا ما يجعل شعوب دول الاتحاد المغاربي غير راضية على الاختيارات والسياسات التي تتبعها السلطات الحاكمة في دولها، لأن تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وتفاقم الأزمات وانسداد الآفاق، وانهيار حزمة من الأحلام، باتت حقيقة موجعة، كما أن الحركات الاحتجاجية في مختلف الدول، خصوصا الجزائر وتونس والمغرب، والتي لا تكف عن دق ناقوس الخطر، مسألة لا تقبل النفي والمزايدات والتوظيف السياسوي على المستوى الداخلي، لأن وجود مثل هذه الاحتجاجات وتناسلها مسألة صحية، ومؤشر على دينامية المجتمعات المغاربية ونشاطها، مثل ما هو عليه الحال في المغرب وتونس، حيث أصبحت الحركات الاحتجاجية ممارسة يومية مألوفة، والاعتراف بوجودها لا يمس هيبة الدولة، ولا يبخس التدابير المعقولة التي اتخذتها الحكومات لتحسين شروط العيش الكريم وضمانها، خصوصا بالنسبة للشرائح الاجتماعية الهشّة التي تضرّرت من مختلف السياسات والإجراءات التي أملتها المؤسسات المالية العالمية، وأفضت إلى مأزق غير عويص.

ولا أحد في مقدوره أن ينفي أن مختلف الحكومات تواجه تحديات حقيقية وإكراهات جدية، في مقدمتها توفير فرص الشغل، وتمكين أجيال جديدة، قاعدتها الواسعة من الشباب، من شروط الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. وهذه الشريحة التي تقض مضاجع الماسكين بخيوط القرار في كل الدول المغاربية لم توضع في صلب السياسات العمومية، وباتت مرشحة للارتماء في أحضان سلوكاتٍ لا أحد يتكهن بمآلاتها، بما في ذلك اللجوء إلى التطرّف والعنف والعدمية، لا سيما في ظل عجز التنظيمات الحزبية والنقابية والمدنية، وشتى مؤسسات الوساطة عن تأطير هذه الفئة التي لا تتبنّى بالضرورة أطروحات وإيديولوجيا الجيل الذي خاض معركة التحرير والاستقلال، ولا تستند إلى مرجعيات وتنظيمات مهيكلة ببرامج واضحة الأهداف والمقاصد والوسائل.
في هذا السياق، يمكن اعتبار سياسة اليد الممدودة من المغرب تجاه الجزائر تحولا جوهريا في قراءة (ومساءلة) الخسائر الاقتصادية والإنسانية والسياسية والاستراتيجية الجسيمة التي تكبدتها دول شمال أفريقيا، بسبب إجهاض قيام مشروع الاتحاد المغاربي. وقد شكل الموقف الذي أعلن عنه الملك محمد السادس، يوم 6 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، حدثا تاريخيا بكل المقاييس، فقد أوضح بكامل المسؤولية "أن المغرب مستعد للحوار المباشر والصريح مع الجزائر، من أجل تجاوز مختلف الخلافات الظرفية والموضوعية المعيقة لتطور العلاقات بين البلدين الشقيقين". كما اقترح "إحداث آلية سياسية مشتركة للحوار والتشاور تشكل إطارا عمليا للتعاون الثنائي بين البلدين في مختلف المجالات، وهي آلية ستمكّن من إيجاد الأجواء المناسبة، وبعث روح الثقة بين الطرفين للعمل، من دون شروط وبعيدا عن أي استثناءات كيفما كان نوعها، وعلى بلورة منهجية مشتركة لدراسة جميع القضايا المطروحة، وخصوصا ما يتعلق بمحاربة الإرهاب وإشكالية الهجرة والتصحر وتحقيق الأمن الغذائي والاستثمار في مختلف المجالات الاقتصادية والتنموية".
وانتظرت كل ألوان الطيف السياسي والثقافي والإعلامي في المغرب تفاعلا سريعا ومسؤولا من السلطات الجزائرية، وأظهر الإعلام المغربي جرعة عالية من الحماس والأمل في تعاطيه مع الاقتراح الملكي، كما عبرت مختلف الأحزاب السياسة والنقابات عن تفاؤل غير مسبوق، وتوقعت أن يُقابل الموقف المغربي بموقفٍ مماثل في الجار الشرقي، ولم تتردد بعض الأحزاب في إصدار بلاغات مثمنة ومؤيدة أي خطوة تنهي عقودا من القطيعة المأساوية بين بلدين وشعبين شقيقين. كما عبرت الأحزاب نفسها عن نيتها التنسيق مع أحزاب جزائرية، لإطلاق مبادرات مشتركة، بهدف الدفع بقطار المصالحة إلى الأمام.
وكان لافتا تنظيم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مهرجانا سياسيا في مدينة وجدة الحدودية، في 7 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، تحت شعار "المغرب والجزائر، قاطرة مستقبل البناء المغاربي"، بمبادرة من الوزير الأول السابق، الاشتراكي عبد الرحمان اليوسفي الذي قاد حكومة التناوب التوافقي من 1998 إلى 2002، والذي بحكم إسهامه الكبير في حركة المقاومة وجيش التحرير وعلاقاته الوطيدة مع قيادات جزائرية عديدة، لعب دورا مهما في تعزيز روابط الإخاء والتعاون بين الشعبين، المغربي والجزائري. ومن هذا المنطلق، بادر إلى التفاعل مع نداء الملك محمد السادس، واختار مدينة وجدة التي احتضنت خلايا من الثورة الجزائرية، وولد وأقام فيها الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة سنوات، منصة لتوجيه رسائل إلى المتحكمين الفعليين في صناعة القرار السياسي في قصر المرادية في الجزائر، وإلى الأحزاب وكل مكونات المجتمع الجزائري، خصوصا وأن السياق والمكان ينطويان على دلالاتٍ سياسية ورمزية متعدّدة الأبعاد، في ظرفية دولية وإقليمية، تتسم بتسارع التحولات على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، وبتغير موازين القوى على الصعيد الجيو-استراتيجي.
مهما اختلف الفاعلون السياسيون في المنطقة بشأن تقييمهم تعثر المساعي التي بذلت لنفخ الروح في هياكل الاتحاد المغاربي، وتحرير مؤسساته من الشلل الذي ألحق به أضرارا كبيرة، فإن مبادرة اليوسفي نابعة من حكمه سياسية، ومن قراءة صادقة للواقع ووقائع التاريخ، لكونه ظل متمسكا بوحدة المسار والمصير التاريخي المشترك بين المغرب والجزائر.
وتشكل الاستعانة بدروس التاريخ وعبره، ومقتضيات الجغرافيا وحتمياتها، عنصرا أساسيا لا يمكن القفز عليه، في مقاربة أزمة العلاقات المغربية – الجزائرية، فالهدف من اختيار حزب الاتحاد الاشتراكي مدينة وجدة مكانا لتنظيم مهرجان "المغرب والجزائر، قاطرة مستقبل البناء المغاربي" التذكير بالدور التاريخي والاستراتيجي الذي لعبته هذه المدينة في التلاحم الوثيق بين المغاربة والجزائريين، من أجل الدفاع عن المصالح المشتركة للشعبين منذ معارك التحرّر من الاستعمار. ومؤكد أن سطوة التاريخ المحتقن ما زالت تستبد بعقول كثيرين من صناع القرار في الجزائر، كما أن صعوبة التغلب على سلطة ذاكرةٍ مشحونةٍ بحزمة من الصور النمطية والسلبية التي شكلت وقود الحرب النفسية والإعلامية بين البلدين عقودا تتطلب مبادرات شجاعة وقرارات تاريخية وحكيمة ذات حمولة استراتيجية، وعقلا سياسيا جماعيا يعي جيدا أن القدر المحتوم على المغاربة والجزائريين يكمن في العيش المشترك، والتواصل بينهم، بالإنصات لبعضهم بعضا، والتآزر في أوقات الشدة والفرح.

تجعل سياسة تبديد الآمال والإصرار على تأجيل فرص التقارب وطي صفحة الماضي فئات واسعة من المجتمع المغربي تؤمن بوجود توجه داخل الجزائر يقف في وجه أية دعوة إلى المصالحة، وينتصر لخيار تسميم العلاقات الثنائية. ويرجع هذا ربما إلى وجود جماعات مصالح رافضة أي تطور إيجابي ووحدوي للعلاقات، وتحرص على تحصين امتيازاتها، ومنها ما له علاقة بشركات صناعة السلاح والاستثمارات النفطية، والذي يرى في أي تقارب بين البلدين فقدانا لسوق مربحة. وهناك من يغذي إيديولوجيا ضيقة، تعتبر التقارب مع المغرب تنازلا يجب التصدّي له. ولا تتردّد بعض المنابر الإعلامية في الجزائر في تقديم عملية فتح الحدود مكسبا للمغرب، ومصدر أضرار للجزائر ما يدل على أن هذه المنابر تتبنّى تيارا يسعى إلى إيقاظ الجراح، مستغلة في ذلك إثارة موضوع الصحراء المغربية، باعتباره موضوعا استعماريا. في وقتٍ شدد فيه المغرب على أن الملف يوجد بين يدي الأمم المتحدة، لإثبات صدق موقفه وحسن نيته في احتواء المشاكل والخلافات الثنائية ومعالجتها، وأيضا حتى لا يبقى المشروع المغاربي رهينة توتر العلاقات بين المغرب والجزائر، أي بما يجعل شعار "المغرب والجزائر، قاطرة مستقبل البناء المغاربي" تاريخيا وواقعيا، يتمتع بالمصداقية في ظرفية دولية وإقليمية دقيقة.