بين الأخذ والعطاء

بين الأخذ والعطاء

24 ديسمبر 2018
+ الخط -
في سياق محاضرةٍ قيّمة، قسّم أحد خبراء التنمية البشرية الناس إلى فئتين رئيستين؛ تنحصر الأولى بين الأشخاص المعطائين، والثانية من الآخذين. وحين التأمل في أبعاد هذا التصنيف، ومحاولة تطبيقها على مجموعةٍ من المعارف، نستنتج أنه تقسيم منطقي، له صلةٌ كبيرة بالواقع. فالفئة الأولى تتخذ العطاء بلا حدود عنوانا لحراكها الاجتماعي، وتعريفا لعلاقتها بالآخرين. تتميز هذه النوعية من البشر بالسخاء المفرط، وإنكار الذات، والشفقة، والقدرة على الإصغاء، ومراعاة مشاعر الآخرين. المكتسبات المادية لا تعني لها الكثير، لا تقيم وزنا كبيرا للغد، فتستخفّ بفكرة الاقتصاد والتوفير، وتؤمن بقوة بمبدأ إغاثة الملهوف، يسكنها همّ تقديم العون المادي والنفسي لمن يحتاجه، لا ترتجي تقديرا من أحد، ولا تبحث عن شهرة أو تحقيق أي مجد، تقدم ما تستطيع انسجاما مع طبيعتها القائمة على المنح والتعاطف.
تلقى هذه الفئة، التي يمكن اعتبارها منكوبةً بصفاتها، الامتنان والاحترام والتقدير من محيطها، غير أن ذلك لا يمنع من تعرّضها للاستغلال من انتهازيين يسيئون تفسير هذه المزايا، ويعتبرونها ضعفا وسذاجة وفرصة للكسب، يدركون بسهولة نقاط ضعفها المتمثلة في سرعة الوثوق بالآخرين، والعجز المطلق عن قول كلمة لا. يستثمرون ذلك ببراعة، وقد يدّعون مأساة شخصية، أو حاجة مادية، يثيرون الشفقة والرثاء في ابتزاز نفسي رخيص، لا يغنيهم عن كرامة وعزة نفس.
أفاد ثري معروف من هذه الفئة، صنع ثروته بالكد والعرق، وحقق نجاحا في حقله، وقدم الكثير لمجتمعه من خلال أعمال الخير الرديفة لنشاطه الاقتصادي، ولم يقصّر مع أيٍّ من أفراد عائلته، فتح لهم الفرص، في مصانعه ومشاريعه وشركاته. ومع ذلك، فإنه يعرف أن بعضهم لا يتوانى عن سرقته عند أول فرصة، ولا يكفّون عن التذمر من ضيق الحال، كلما طرقوا باب مكتبه، طمعا في مزيد من الهبات والعطايا، وهو يدّعي الجهل تفاديا لإحراجهم.
أما الفئة الثانية من الآخذين، وهم الأكثر شيوعا، فهي نماذج متطفلة، عاجزة عن العطاء بالمطلق، بل تعتبره غباء وضعفا، حياتها قائمة على الأخذ ثم الأخذ إلى ما لا نهاية، تحرّكها دوافع الأنانية والطمع والانتهازية والبخل والكسل، لا تجد حرجا في إقامة علاقاتها على أساس المنفعة، تعتقد أنها مركز الكون، وأن الجميع مكرّسون لخدمتها وتحقيق حاجاتها. ماهرة جدا في التوفير والاقتصاد. وفي العادة لديها قدرة على تحقيق المكاسب المادية بسهولة، كما أنها تتقن توظيف الآخرين، من خلال ادعاء ما ليس فيها من صفات إنسانية، فتنسج شبكة علاقات اجتماعية، بما يمكّنها من الصعود مهنيا واجتماعيا من خلال التملّق والنفاق والكذب والخداع.
وبين تلك الفئتين، ثمة ناجون، وهم قلة القلة. تمكّن هؤلاء من تحقيق الصورة المُثلى لذواتهم، فجمعوا بين بعض تلك الصفات المتناقضة بميزانٍ دقيق، فلم يفْرِطوا في العطاء على حساب مصالحهم الشخصية، ولم يقبلوا بأن يكونوا عرضة للاستغلال، وقدموا مساعداتٍ ودعما ضمن دائرة استطاعتهم. وفي الوقت نفسه، لم يغالوا في أنانيتهم، ولم يرتضوا لأنفسهم الحصول على ما لا يستحقونه، وذلك من باب احترام الذات. وحين محاولة تطبيق هذا التصنيف على العلاقات الإنسانية من حب وصداقة وأمومة وغيرها، بعيدا عن حسابات الربح والخسارة، سيبدو المشهد مختلاً بعض الشيء؛ طرف يعطي بلا توقف، وطرف يأخذ من دون اكتفاء، في استنزاف نفسي لا ينتهي. ما ينذر بنمط علاقات مشوّهة عرجاء، ينقصها التوازن، منذورة للخراب عند أول لحظة إنهاك، تعتري مَن بذل عمره في العطاء، ولم يجد، في المقابل، سوى الجحود والنكران، والرغبة في المزيد مهما كان الثمن، ما يؤدي بنا إلى خيبة الأمل محصلة نهائية، لا مناص من مواجهة تبعاتها النفسية المريرة.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.