الفرز الثوري الضائع في تونس

الفرز الثوري الضائع في تونس

24 ديسمبر 2018
+ الخط -
لم تكن الثورة التونسية عملا دمويا، كما لم تكن فعلا استأثر بإنجازه حزب أو جماعة أو فئة، بقدر ما شكلت فعلا جماهيريا بالأساس، قام على مطالب شعبية، ذات مضامين اجتماعية، واستبطن غايات سياسية، لا يمكن نفيها، مثل الحرية وحق التعبير والتنظّم. وكان واضحا أن اتجاهات الحراك الثوري كانت، في أيامها الأولى، بصدد تخليق أشكال من المفاصلة السياسية بين أنصار الثورة وبقايا النظام السابق ممن وجدوا أنفسهم فجأة خارج الحكم، بعد حل كيانهم السياسي الذي كان مهيمنا عقودا طويلة على البلاد (حزب التجمع الدستوري الديمقراطي)، غير أن صراعات حلفاء الأمس في الخط الثوري فتحت المجال واسعا لعودة الوجوه السلطوية القديمة، وتثبيت أقدامها في السلطة ومراكز صنع القرار.
بعد سنوات ثمان، يمكن القول إن الفرز الذي ظهر في السنوات الأولى للثورة بدأ بالاضمحلال تدريجيا، والحقيقة أن اختلاط خطوط التماس بين أنصار الثورة وخصومها بدأت بالتلاشي بشكل متسارع، منذ اختارت قوى محسوبة على المعارضة السابقة زمن الدكتاتور أن تتحالف مع لوبياتٍ نافذةٍ لإطاحة حكم الترويكا سنة 2013، ليتكرّس هذا التلاشي، وتنتهي الفواصل مع تعميد التحالف بين حركة النهضة وحزب نداء تونس شريكين في الحكم، يتقاسمان النفوذ والمصالح.
اليوم تتشكل بنية الصراع بين أطراف مختلفة، لا يمكن توصيفها بصراع بين الثورة والثورة المضادة بشكل حاسم، بقدر ما غلبت الحسابات الحزبية على المشهد، وتداخلت التقاطعات بين القوى السياسية المختلفة، ففي الحكومة نجد ائتلافا يضم حزب نداء تونس، شق يوسف الشاهد، وحزب مشروع تونس، وكلاهما محسوب نظريا على الأقل على الثورة المضادة في لحظة تاريخية ما، بالإضافة إلى حركة النهضة التي تمثل ثورة 14 جانفي (يناير/ كانون الثاني) رافعتها السياسية للعودة إلى المشهد العام في البلاد. في المقابل، نشأ حلفٌ يضم "نداء تونس" شق حافظ السبسي، وهو سليل النظام القديم، والجبهة الشعبية المحسوبة على قوى الثورة ما بعد إطاحة الدكتاتور.

الغريب أن القوى السياسية المحسوبة على الثورة، أو على الأقل ترفع شعاراتها لم تتقاطع إلا في البرلمان، دفاعا عن مخرجات هيئة الحقيقة والكرامة، فيما باعدت بينها خياراتٌ وحساباتٌ كثيرة، أفضت إلى حالة من الصراع المعلن إلى حد ظهور أشكالٍ من الخطاب الإقصائي التي زادت في تشنج المشهد العام.
الصورة السياسية الغائمة في تونس أثّرت فعليا على طبيعة الخطاب الثوري، وإذا استثنينا الرئيس السابق، المنصف المرزوقي، وحزبه، وبعض الأحزاب الصغيرة التي ما زالت متمسكة بنهج المفاصلة الثوري، فإن بقية القوى والأحزاب، بيمينها ويسارها، بحثت عن المواقع قبل ان تحرص على المواقف، وهو ما جعل ممارساتها تقوم على حساباتٍ مصلحيةٍ تحضر فيها الشعارات الثورية، بحسب المصالح والعداوات والتحالفات، فلا يمكن مثلا أن نعتبر ما يسعى إليه أنصار السترات الحمراء اليوم امتدادا للثورة، حتى وإن تحالفوا مع اتحاد الشغل والجبهة الشعبية، حين ندرك أن المطلب المركزي لهؤلاء يتعلق بتوسيع الصلاحيات الدستورية لرئيس الجمهورية، سليل النظام السابق، ولا يمكن اعتبار الطرف الآخر المشارك في الائتلاف الحكومي تعبيرا عن الثورة، أو الثورة المضادة، بقدر ما هو نتاج صراع مواقع بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية الذي هو، يا للغرابة، مؤسس الحزب الذي ينتمي إليه رئيس حكومته الذي يرفض الخضوع لإرادته، متسلحا بشرعيةٍ دستوريةٍ، تمنحه كل الصلاحيات لإدارة الشأن العام.
الأكيد أن ما يجري اليوم ما كان ليخطر ببال محمد البوعزيزي، ولم يكن أكثر المحللين السياسيين استشرافا يتوقعون حصوله، وهم يتابعون الحراك الشعبي نهاية 2010 وبداية 2011، بل ظل خطاب الثورة محل تجاذبٍ وتنازع بين فرقاء سياسيين استفادوا منه، وإن لم يكونوا الطرف الذي أنجزه، حتى وإن ساهم فيه، ككل الشارع الثائر في تلك الأيام المجيدة. هل انتهت الثورة وشعاراتها؟ أم أنها بصدد تخليق جيلها الذي يريد أن يصنع كل شيء من جديد، أولئك الأطفال الذين كبروا في ظل الحرية والسجالات والمظاهرات والإضرابات، ليس سهلا أن نقنعهم اليوم بالخضوع لنمط الماضي في إدارة الحكم، لكنهم بالتأكيد ليسوا سعداء بصراعات ديناصورات السياسة الذين عاشوا زمانهم، ويريدون اليوم السطو على زمان غيرهم. ربما تحتاج الثورة وقتا أطول، لتظهر مخرجاتها في أشكال وعي جديدة، وتعبيرات سياسية مختلفة، ورؤى بعيدة عن الأدلجة المفرطة، أو الشعارات المزيفة، ما لم يحاول بعضهم أن يقتل هذا الأمل الذي ينمو عبر محاولات استعادة زمن الاستبداد.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.