زياد الرحباني وزكريا أحمد

زياد الرحباني وزكريا أحمد

23 ديسمبر 2018

زياد الرحباني (يمين) يضع صورة زكريا محمد بغرفة الضيوف

+ الخط -
بين حين وآخر، يتفقدنا الفنان الكبير زياد الرحباني بتصريح سياسي يسم البدن؛ إذ يُبدي إعجابه بواحد من هؤلاء: حسن نصرالله، وبشار الأسد، فننفر منه، نحن محبيه، ونقرّر أن نقاطعه. وفجأة نسمع أغنية عذبة من ألحانه تؤديها فيروز، أو جوزيف صقر، أو يؤدّيها بصوته، فنهرب إلى القول إن تأييد الطغاة لا يُفسد، في بعض الأحيان، للحب قضية.
تعلّم زياد كتابة الشعر، والعزفَ، والتلحين حينما كان طفلاً صغيراً، وعاش في بيئة شعرية وموسيقية شديدة الانضباط. ومع ذلك، تشكلتْ شخصيتُه على نحو بالغ الفوضى، والبوهيمية، والتمرّد، والضَرْبِ بالأشياء عَرْض الحائط، وخَلْط الحابل بالنابل، وحَطّ جلاميد الصخر من علِ.
يسحرني زياد بألحانه، وبعلمه، وبفنه، وبشعره، وبذكائه، وبذلك النزوع الهجومي الذي يمتلكه ضد السخف واللامبالاة، وبمقدرته العجيبة على محاصرة القلعة (القلعة هي فيروز طبعاً)، وانتظارها حتى تصبح جاهزة للاستسلام، فيعطيها، حينئذ، لحناً جريئاً، لحناً لو عاشت دهراً بين عاصي ومنصور الرحباني وفيلمون وهبي ومحمد محسن وزكي ناصيف وسعيد عقل وطلال حيدر وجوزيف حرب وميشيل طراد لما جرؤت على مجرد التفكير بغنائه. هل هناك شيء أكثر غرابةً من أن تغني فيروز ألفَ أغنية ذات شعريةٍ عاليةٍ، رصينة، ويأتي يوم تغني فيه: كان غير شكل الزيتون، أو هدير البوسطة، وتحدثنا واحد عم ياكل خَسّ، وواحد عم ياكل تين؟ والأغرب من ذلك أن هذه الأغاني الزياديَّةَ المنشأ تنتشر، ويردّدها الناس كما لو أنها يا شامُ عاد الصيفُ، وفايق يا هوى، وإسوارة العروس.
الآن: أرجو من حضراتكم أن تتصوّروا، وتتأملوا، وتتفكّروا في السبب الذي يجعل موسيقاراً لبنانياً مثل زياد الرحباني، يعيش في قلب مختبر التحديث والتطوير، يُعَلّق صورة كبيرة للموسيقار زكريا أحمد في غرفة ضيوفه. يقول زياد لمنى الشاذلي في حواره، في برنامج "جملة مفيدة"، إن ضيوفه، في أثناء زيارتهم له، كانوا ينظرون إلى صورة زكريا أحمد فيعتقدون أنها صورة أحد أجداد العائلة الرحبانية، فلا يكلفون أنفسهم بسؤاله عنه، وإذا سأله أحدهم: مين هيدا؟ يقول زياد: هيدا زكريا أحمد.. ويتابع حديثه معهم متقصداً ألا يُعَلِّق بشيء، ليرى إن كانوا يعرفون أهميته، مثلما يعرفها هو، ويكتشف أنهم لا يبالون.
في أيام شبابنا، نحب أم كلثوم، ويتباهى الواحدُ منا، أمام زملائه في المدرسة، بأنه كان يقلب محطات الراديو ليلاً، فوفقه الله بسماع أغنيتها الفلانية، أو العلانية.. ولم نكن نعرف، بالطبع، مَنْ هو مبدع كلماتها وألحانها. بالنسبة إليّ، بعد أن كبرتُ وأصبح لدي اهتمام بالثقافة الموسيقية، اكتشفتُ أن الأغاني التي أُحِبُّها وأسمعها بشكل مقصود هي: حُلُم، الآهات، حبيبي يسعد أوقاته، هُوَّ صحيح الهوى غلاب، الأولة في الغرام، كلها من ألحان زكريا أحمد الذي كان يشكل، مع بيرم التونسي وأم كلثوم، ثلاثياً مُعْجِزاً. ولئن كانت أم كلثوم قد فتحت المجال، فيما بعد، لشعراء كبار، كأحمد رامي، وملحنين كبار، أمثال رياض السنباطي ومحمد القصبجي ومحمد عبد الوهاب وبليغ حمدي، فهذا لا يعني أنها قلبت ظهر المِجَنّ للشيخ زكريا، بل العكس، لقد أعطته فرصة لتكون ألحانُه في موضع المقارنة مع ألحان أولئك العباقرة، فتظهر نكهتها الحريفة، ثم يأتي واحدٌ مثل زياد الرحباني ليعلق صورتَه وسط الصالون، مؤكّداً، على نحو غير مباشر، على إبداعه الخارق.
كان الشيخ زكريا أحمد يقف بتواضع الكبار أمام الشيخ سيد درويش، ويغنّي بعض أدواره بصوته الذي لا يضاهيه في رجولته وقوته وجماله غير صوت صالح عبد الحي ومحمد عبد المطلب، ثم يغني الورد جميل، ويا صلاة الزين، ويلحن لأم كلثوم في فيلم "سَلَّامة" أغنيتين، ما يزال الناس يردّدونهما: قلي ولا تخبيش يا زين، وغنّي لي شوية شوية.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...