كلاكيت

كلاكيت

22 ديسمبر 2018
+ الخط -
تبقى مرارة السلعة الرديئة أجلا طويلا، وقد يضرب بها المثل مدى الحياة، وتتكرّر الأحداث كل حين؛ ليجد المرء تشابها بين أحداث يمر بها أو يسمع عنها، ويكون نصيبه كبيرًا إذا كان قارئا للتاريخ؛ فما جرى اليوم يحمل بعض ملامح الأمس، وفي التاريخ العبرة لمن يعتبر.
نشر أخيرا عن الصحفي كلاس ريلوتيوس، وهو صحافي في صحيفة دير شبيغل الألمانية العريقة، فاز مطلع شهر ديسمبر/ كانون الأول الحالي، بجائزة مراسل السنة، بعد تقريره عن شباب سوريين أسهموا في الثورة على نظام الأسد سنة 2011.
قدّم ريلوتيوس 14 تقريرًا مثيرًا للجدل، وصاحبت تقاريره ردود فعل واسعة في ألمانيا، وحظي بشهرة واسعة لقاء عمله المتقن، لكن الرياح تأتي بما لا تشتهي السَفِنُ، وينكشف المستور وتظهر قوة الصفعة؛ فقد خدع ريلوتيوس الجميع سنوات، إذ كتب ستين مقالًا في النسختين، الورقية والإلكترونية، بالإضافة إلى أربعة عشر تقريرًا، لكن ظهرت للناس خدعته، ولو بعد حين.
ويتمثل أمامي الآن صاحب "قنديل أم هاشم"، يحيى حقي، وقد بدأ مسيرته في الإسكندرية محاميًا، لكنه لم يصادف نجاحًا يغريه بمواصلة العمل، وخطرت له فكرة أن يكتب مقالات عن أشهر رجالات القانون والمحاماة، وأرسل مقالاته إلى صحيفة وادي النيل، وكان ينشر تلك المقالات ممهورة بتوقيع (محامٍ) لا غير، ولم تفلح طريقته في اجتذاب أي عميل.
زار الصحيفة يومًا، وكان الناس يتلهفون على أعدادها، ويقرأون بنهم ما يكتبه مراسل الصحيفة الخاص في مدينة أنقرة. وفي مقر الصحيفة، رأى رجلًا نحيلًا، يختفي وراء مكتب صغير، وأمامه مجموعة من الصحف التركية، وبيده مقص يقطع به مقالات يتأهب لترجمتها؛ فإذا به مراسل الصحيفة من مدينة أنقرة! ربما لم ينكشف أمر مراسل أنقرة للعيان بالصورة التي انكشفت بها خدعة ريلوتيوس، لكن قطعًا يمكن للمرء أن يخدع بعض الناس طول الوقت، أو أن يخدع كل الناس بعض الوقت، لكنه لن يخدع كل الناس كل الوقت بأي حال.
كشف خوان مورينو كذب ريلوتيوس، وقد تعاونا معا في مقال عن الحدود الأميركية المكسيكية، ثم حاول مورينو أن ينبه الصحيفة لتخرصات ريلوتيوس، لكن بعضهم اتهم مورينو بالحقد على نجاحات زميله، إلى أن تثبتوا من صدق ادعاءات مورينو. وما أشبه الليلة بالبارحة؛ فإن بشار بن برد العقيلي قد خرج للحج، ومعه صديقه سعيد بن القعقاع، فنزلا قرية يقال لها زُرارة، ووجدا فيها من الخمر واللهو ما أغراهما بالبقاء فيها أيام الحج، وعادا لم يعرف الناس عن ذلك شيئا.
مكثا مدة، والناس تظن بهما خيرًا، إلى أن اختلفا في مسألة؛ فباح ابن القعقاع بالسر فقيل في ذلك "حجٌ ولا حجِ بشار" تعريضًا بسوء صنيعه. وذهب بشار وجاء من بعده الحسن بن هانئ (أبو نواس)؛ فخرج للحج لم يقصد أداء المناسك، لكنه أراد أن يظفر بجارية يقال لها جنان؛ فقيل فيه "حجٌ ولا حجِ أبي نواس". واليوم قد يرمى من يختلق قصة صحافية أو تقريرًا باسم "ريلوتيوس".
اختلق ريلوتيوس القصص، وكتب التقارير الوهمية، وبعد أن انكشف الأمر برّر ذلك بأنه كان يخاف من الفشل في أول الأمر، ثم لما صادف النجاح خاف أن يفقده! اختلق القصص، ولم يتوقف عن ذلك، وتتابعت كرة الثلج، وزادت خطورتها وفاح ريحها، ولا بد يومًا أن تظهر الحقيقة، وإن تأخرت. ربما يتألم آخرون، اجتهدوا وتحققوا من مصادر أخبارهم واستوثقوا من صدق معلوماتهم، لكن المصير المخجل لريلوتيوس وأمثاله يشفي صدور الصادقين في أعمالهم، ويناشدهم بالثبات على مبادئهم، وإن لم ينالوا جائزة أو يلاقوا تكريمًا.
D14DCC9E-4695-4E3F-AF5D-957B3D79F68C
D14DCC9E-4695-4E3F-AF5D-957B3D79F68C
محمد الشبراوي (مصر)
محمد الشبراوي (مصر)