هل تدخل "الدعوشة" و"الخشقجة" معجمنا التاريخي؟

هل تدخل "الدعوشة" و"الخشقجة" معجمنا التاريخي؟

21 ديسمبر 2018
+ الخط -
صادف بعدما قرأت عن إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية قبل أيام، هذا المشروع المهم، أن قرأت أيضَا مقالة للإعلامي الجزائري، عبد الرزاق بوكبة، تحت عنوان "كيف نقرأ تعرّي الممثل السوري في قرطاج؟" (موقع ألترا صوت، 15/12/2018)، ورد فيها قول لمدير المسرح البلدي في تونس: "إنّ ما قام به الممثّل لم يكن مجرّد إيحاءات جنسية مسقطة، وإنّما رسالة أراد من خلالها التّعبير عن انتهاك الحرمات في العالم العربي والاعتداء على الجسد. أي أنّنا مطالبون بتلقّي المشهد بلغة المسرح، لا بلغة الجنس، حتّى نفهمها ونتفهمها، لكن يبدو أنّنا لم نزل في الفضاء العربي بعيدين عن هذا المنطق، لأنّنا لم نتربَّ على التّفريق بين السّياقات، أو لنقل إنّنا تراجعنا في هذا الباب، في سنواتنا الأخيرة، بسبب خضوع شارعنا للرّؤية السّعودية، التي "خَشْقَجَتْ" يومياتنا، فباتت عدوّة لكلّ ما هو فنّي وفكري وجمالي".
والقول يتفق مع مقولة المقالة، وهي فهم السلوك ضمن سياقيه، الزمني والظرفي أيضًا، لكن ليس هذا ما أرمي إليه في هذه المقالة، إنما الكلمة التي ابتدعها مدير المسرح البلدي في تونس "خشقجت"، لما تحمل من معانٍ ومؤشراتٍ جارحةٍ ومهينةٍ من خلال سياقها، والحالة التي أنتجتها، مع براءة اسم الضحية من كل هذه الدلالات، فاللغة منتجٌ ثقافيٌّ بشري، وهي تعكس المستوى الحضاري الذي وصل إليه أي شعب، فإما أن تكون لغةً حيةً مواكبة للعصر، قادرة على الاحتواء والتأثير في وعي الأفراد وسلوكهم، وقادرة على إبداع الجمال، وإما أن تكون مصابة بالترهل والشيخوخة الدائمة، أي أن تتموضع في ذلك البرزخ بين الموت والحياة، لا تموت، لكنها لا تستطيع التحرّك من مكانها، أو أن تلحق الركب، أو أن تساهم ببصمتها في مجال الحضارة الإنسانية، فاللغة، بقدر ما هي مجموعة رمزية دالة على أفكار ومعارف ينتجها المجتمع ويتداولها، وتنقل من جيل إلى جيل، هي أيضًا أداة أساسية دالة على ثقافة الجماعة التي تستخدمها وتنتجها. وبقدر ما هي أداة استعمالية، هي انعكاس أو تشكيل رمزي لمنهج فكري، إذ يصوغ ويشكل مُنتجُها أفكارَه بواسطتها.
"ترتبط المعاجمُ التاريخيّةُ في جميع اللغات بالنهضة والتنوير، لأنّ اللغة صنوٌ لنهضةِ أيِّ أمّة، ولأنّها تلتفتُ إلى التاريخ من زاوية قبول فكرة التغيّر والتطوّر"، كما جاء في كلمة الدكتور
 عزمي بشارة في حفل إطلاق ما أنجز من المعجم التاريخي للغتنا. انطلاقًا من هذه المقولة التأسيسية، فإن كل مرحلة من تاريخ أي شعب ستكون لها لغتها التي هي زبدة حراكه الحضاري والثقافي في اللحظة التاريخية، والزبدة التي لا تطفو على وجه الجرّة إلاّ بعد أن تتوقف عن الرجّ والخض، فتقطف وتصبح جديرةً بالدراسة والتمحيص، يمكن القول إنها تومض ببعض الفلاشات الساطعة التي لا يمكن تجاهلها من شدة سطوعها، وشعبٌ لا ينتج المعرفة سينتج زبدةً غير صالحة للتداول الإنساني، مثال عليها بعض المفردات التي تداولها الناس بكثرةٍ من وحي الواقع العربي الراهن، المتميز بالعنف بأقصى درجاته، وأول الكلمات التي انفجرت مثل قنبلةٍ صوتيةٍ في الواقع العربي، كانت كلمة "داعش" التي بدأ الناس من هول الصدمة بهذا الكيان المنبثق بكامل قوته وسطوته، شاهرًا ثقافة وسلوك ومنهج العنف الوحشي، يتداولونها ككلمة حية، قفزت فجأة من بين صفحات معجمهم اللغوي، مثلما لو كان لها أصول راسخة، فتراهم يستخدمونها بكل تصاريفها الممكنة: دعش، انعدش، داعشي، دعدوش، دعوشة، إلى ما هنالك من تصاريف، واستقرّت الكلمة في الكلام المتداول بقوة، فهل ستدخل المعجم التاريخي للغة العربية، ويدرجها العلماء والباحثون في جداولهم؟
بعد كلمة داعش، تأتي هذه الكلمة الجديدة التي ابتدعها مدير المسرح البلدي في تونس، ولا أظن أن أحدًا سبقه إليها "خَشْقَجتْ"، إذ جرى بناء الفعل على جريمة قتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في إسطنبول، بطريقة سافرة تصل إلى حد الفجور والاستهتار بأي منظومةٍ قيمية أو أخلاقية أو قانونية، وتقطيع جثته وإخفائها كما أشارت معظم التصريحات، بناءً على حيثيات التحقيق.
لو تخيلنا أن الكلمة تم تداولها وشاع استخدامها بين الناس، وأنها يمكن أن تصل إلى مكانةٍ تخولها دخول المعاجم التاريخية، فكيف سيكون شرحها؟ وما هي الفكرة التي سيكونها القارئ، أو الباحث في التاريخ اللغوي، عن ثقافة الشعوب العربية في عصرٍ سماته الأساسية الإنتاج المعرفي الكثيف والثورة المعلوماتية ومبادئ الديمقراطية والحريات والمساواة وعصر حقوق الإنسان؟
هناك مصطلحاتٌ عديدة دخلت القواميس اللغوية، منسوبة إلى أصحابها، كمخترعيها مثلاً، أو
ممن مارسوا سلوكًا معينًا تم تشخيصه من الطب النفسي وعلماء النفس على أنه حالة مرضية، أو اضطراب سلوكي نفسي المنشأ، كالسادية التي مارسها وكتب عنها أعمالا سردية عديدة، الكونت دو ساد. أمّا أن تكون ضحية هي موضوع المعنى المفاهيمي للكلمة، فهذا يشير إلى أزمة ثقافية جبارة، عندما تصبح الكلمة تشير إلى طريقة تصفية نظام سياسي الخصوم السياسيين أو المعارضين، نظام لديه أيضًا جمهور من المؤيدين، فهي من الخطورة بمكان لا يمكن معه تجاهلها.
إذا كان أوديب شخصية أسطورية، في عصر كانت الأساطير فيه حاملة التراث الفكري والجمالي والفلسفي للبشرية، فإن العلم اكتشف هذه الحالة الأوديبية في الواقع، واكتشف اضطرابات نفسية وسلوكية كثيرة، مستلهمًا من الأدب والحكايات والأساطير والمرويات الشعبية. في هذا السياق، يمكن القول إن "الدعوشة" و"الخشقجة" تعبيران عن ثقافة سائدة وسلوك متبع ونزعات عنفية وإجرامية، أنتجتها مراحل النكوص والتردّي الثقافي والقيمي والحضاري في منطقتنا بعد عقود وقرون من الاستبداد الفكري والديني والسياسي، لو لم توجد هذه القابلية والاستعداد لممارسة سلوكٍ من هذا القبيل لما وُجد تنظيم داعش، ولما وقعت جريمةٌ على هذا المستوى من السفور والفجور بحق فرد كان له رأي مغاير، في زمن الحقوق واحترام الحياة والكرامة والعقل البشري. هاتان المفردتان لم تخرجا عن السياق، بل إنهما منتجٌ طبيعيٌّ للسياق الحضاري الذي أوصلتنا تلك السلاطين المستبدة إليه، الدرك الأسفل من قاع الحياة بين الشعوب. فهل سيكون لهما مكانهما في المعجم التاريخي للغتنا العربية، الجميلة التي اغتصبها الطغيان، فأصاب روحها وانتهك كرامتها، وأجبرها على احتضان مفرداتٍ كالدعوشة والخشقجة؟ سؤال برسم المستقبل.